أزراج عمر يكتب:

الدارس الثقافي ليس الناقد الثقافي

يتميز مصطلح النقد الثقافي ببعض الغموض حيث هناك من يعادله بالدراسات الثقافية التي نشأت وتطورت في بريطانيا ومن ثم تجاوزت حدودها إلى جامعات كثيرة في العالم الغربي بشكل خاص، وهناك من يوضح أن النقد الثقافي يختلف عن الدراسات الثقافية في أمر جوهري وهو التركيز على التحليل النقدي للأنظمة الثقافية التي تميز مرحلة معينة وتتحكم في مجتمع معين.

في هذا الخصوص يبرز الناقد الثقافي البريطاني البارز ريموند وليام أن إحدى المهام الأساسية للناقد الثقافي هي الكشف عن بنية المشاعر الناظمة لثقافة ما في مرحلة تاريخية معينة وفي مجتمع معين. إن سبر بنية المشاعر هذه يجعل من عمل الناقد الثقافي معادلا لما قام به ميشال فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء” وفي كتبه الأخرى حيث درس فيها أنظمة الخطابات والتصورات والأنماط الثقافية والذهنية الأساسية التي تحكمت، مثلا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا وهلم جرا، وما قام به العالم الأميركي توماس كوهن في كتابه الثورات العلمية حيث كشف عن أنماط النماذج الكلية الفكرية والعلمية السائدة في الغرب في فترات معينة من تاريخه العلمي والثقافي، وما قام به هوسرل في كتابه أزمة العلوم الأوروبية من تحليل لأنماط الأفكار المهيمنة على العقل الغربي والمشكلة له معا.

فالدارس الثقافي يدرس ظاهرة ثقافية أو أدبية ما من حيث تاريخ نشأتها والشكل الذي تظهر من خلاله وبواسطته كأن يدرس، مثلا، ديوانا شعريا أو قصيدة، أو رواية، أو فيلما سينمائيا أو مسرحية من حيث الشكل والمضامين وتمثيلها للمجتمع
وللناس فيه، أما الناقد الثقافي فيهتم جوهريا بالإجابة عن مثل هذين السؤالين: ماذا يميز بنيات العقل أو الفكر أو الثقافة في جزائر عصر الرومان، أو جزائر مرحلة الإسلام؟ وما هي المكونات المؤسسة لمثل هذا العقل أو الثقافة أو الوعي؟ إلخ… أكثر مما يهتم بالأشكال والأجناس الأدبية والفنية التي ازدهرت، أو أخفقت في مثل هذه المراحل التاريخية المذكورة وغيرها.

يؤرخ للنقد الثقافي بأنه قد نشأ في أميركا الثلاثينات من القرن العشرين وتحديدا على أيدي جماعة مثقفين يساريين أميركيين يدعون بجماعة نيويورك حسب الدارس الأميركي فنسنت ليتش، أما الدراسات الثقافية فيؤرخ لها بأنها قد نشأت ببريطانيا في مناخ تعليم الكبار سنا وبروز الصراع القوي بين اليسار واليمين في المجتمع البريطاني، فضلا عن بدايات تشكل الوعي بضرورة كسر مركزية وسيطرة ما يسمى بالثقافة العليا الممثلة للطبقات المتحكمة في الرأسمال السياسي والعقائدي والمادي والرمزي، وفي المناهج التعليمية المقررة رسميا.

وتلتزم الدراسات الثقافية أيضا بالدفاع عن حق ثقافات الهوامش في تدريسها واحترام وجودها في المجتمع مثل ثقافات الريف، والعمال، والأقليات، والإثنيات، والقوميات المختلفة في المجتمع البريطاني ما بعد الكولونيالي. وفي الواقع فإن النقد الثقافي قد نشأ في ظروف تاريخية معينة من احتدام الصراع الطبقي بين الطبقة العمالية والطبقة البرجوازية، وفي هذا المناخ ساهم في نشأته ظهور التيار النسوي الرافض للذكورة أيضا، الحركة الطلابية الأوروبية/ الغربية المناهضة للرأسمالية فضلا عن مساهمة الأكاديميين الذين جاؤوا من العالم الثالث إلى الغرب مثل ستيوارت هول ذي الأصل الجاميكي، وهومي بابا وغياتري سبيفاك الهنديين، وإدوارد سعيد الفلسطيني الأصل، وجاك دريدا اليهودي-الجزائري الأصل والفرنسي الجنسية، وبيير بورديو وجان فرانسوا ليوطار اللذين عاشا في الجزائر تحولات تجربة حقبة الاستعمار التي انعكست على إنتاجهما الفكري والفلسفي.

أما في ألمانيا فقد مارست مدرسة فرانكفورت شكلا متميزا من النقد الثقافي ولعبت هذه المدرسة دورا مهما في وضع اللبنات النظرية الأساسية التي نهل ولا يزال ينهل منها النقد الثقافي راهنا.

قدم وليامز موقفا نظريا بديلا ويتمثل في إلحاحه على شرعية علاقة تضافر وتكامل البنيتين معا على نحو جدلي (ديالكتيكي). كما ساهم إدوارد طومسون البريطاني في تأسيس النقد الثقافي من خلال كتابين مهمين أولهما هو “بؤس النظرية” وثانيهما هو “صنع الطبقة العمالية الإنكليزية”. أما في روسيا فقد ظهرت الشكلانية الروسية التي اهتمت بالعلاقة بين العناصر التي تبني الظاهرة الأدبية أو الثقافية كما نجد ميخائيل باختين الذي أبرز أهمية وقيمة الفلكلور ومفهوم “الحوارية” بدل “المنولوج الأحادي البعد” وأعلى من شأن فكرة “الكرنفال” الذي اعتبره فضاء جماعيا ومسرحا للتعددية الثقافية وللهويات ذات الفرادة التي لا تلغي الاختلاف، ولقد أبرز باختين هذه الفكرة في كتابه “رابليه وعالمه”.

 أما في أميركا فقد مهد توماس إليوت للنقد الثقافي في كتابيه “ملاحظات نحو تعريف الثقافة” و”نقد الناقد”. إلى جانب إليوت يمكن ذكر نقاد الأدب والثقافة لمدرسة شيكاغو ومدرسة نيويورك الذين لعبوا دورا مهما في بناء وممارسة النقد الثقافي كما أوضح ذلك الناقد الأميركي فنسنت ليتش في كتابه “النقد الأدبي الأميركي من الثلاثينات إلى الثمانينات” من القرن العشرين. هناك أيضا مفكرون وتيارات فكرية أخرى ساهموا في بناء النقد الثقافي نذكر منهم، على سبيل المثال فقط، الدور المركزي لكل من المفكرين الإيطاليين وهما فيكو الذي رسخ فكرة صنع التاريخ من طرف البشر، وغرامشي الذي قدم للنقد الثقافي فكرة الهيمنة والكتابة التاريخية إلخ…