د. عيدروس النقيب يكتب:

يتهمون الخارج وينسون أنفسهم

من المؤسف أن يجد المرء نفسه مضطرا لمناقشة أطروحات وتصريحات ومواقف لا تستحق النقاش لولا أنها صادرة عن مثقفين ومسؤولين يتصنعون الوطنية ويدعون الرصانة ويرتدون قفاز السياسة والدبلوماسية، ويتحدثون في قضايا أعقد وأكبر من أن تعالج عن طريق "لن نسمح" و "لن نقبل" و"سنرفض" و" نحن من يقرر" وما إلى ذلك من المفردات العصبوية المعبرة عن عنتريات خرقاء وفقاعات كلامية وبالونات إعلامية خالية من أي وجاهة أو مضمون أو حتى حجة مقنعة.
مثلما تعرض الباحث الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله قبل أسابيع لحملة لم تدع شتيمة ولا مفردة تجريح إلا واستخدمت فيها ضده على خلفية قوله بأن اليمن لا يمكن أن يعود دولة واحدة بعد اليوم، تعرض الدكتور محمد آل زلفي العضو السابق في مجلس الشورى السعودي لحملة مشابهة على نفس الخلفية، كانت الحملة صاخبة ومدوية، لكنها مثل سابقتها لم تقدم حجة واحدة موضوعية ومقنعة لتبرر المواقف المتشنجة لأصحابها.
بالأمس قرأت منشوراً مشابهاً لبرلماني ووزير سابق وسفير حالي يتهم فيها "مثقفين خليجيين" بأنهم "ضد اليمن"، كل ذلك على خلفية أنهم يقولون حقيقة يعلمها هؤلاء المتشنجون قبل غيرهم، لكن العصبوية السياسية والجهوية وثقافة التفاخر والاستعلاء وأيديولوجية "الفرع والأصل" تمنعهم من الاعتراف بهذه الحقيقة علناً، وإن كان بعضهم قد أعلنها جهراً ثم تراجع عما أعلن، أقصد حقيقة أن اليمن لا يمكن أن يبقى دولةً واحدة بعد التجربة المريرة التي عانى منها الشعبان في الشمال والجنوب على السواء، بسبب خطيئة 22 مايو 1990م، وهي حقيقة تؤكدها قرائن تاريخية ووقائع حياتية وأعراض وظواهر ومعالم وممارسات يومية لم تعد قابلة للتشكيك أو الدحض وباعتراف عدد من الأساطين الكبيرة في منظومة الحكم الماضية والراهنة.
معظم إخوتنا "المتثاقفين" الشماليين، يهملون تلك الحقائق والقرائن والوقائع المشهودة على الأرض ويبحثون عن متآمر خارجي، يكيلون له الاتهامات ويسدون إليه اللعنات ويقذفونه بالشتائم والسباب ويحملونه مسؤولية بؤس السياسات وفشل الممارسات وإخفاق المنهجيات السياسية التي استخدمت في التعامل مع ما سمي "المشروع الوحدوي اليمني".
أعود وأكرر ما قلته عشرات المرات: إن استعادة الدولتين الجنوبية (التي كان اسمها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) والشمالية (التي كان اسمها الجمهورية العربية اليمنية) ليس انتقاصا من حق أحد بقدر ما يمثل مراجعة شجاعة لخطأ تاريخي راح ضحيته الشعبان في الشمال والجنوب معاً، وإن العودة إلى وضع الدولتين والذي لا يعني بالتأكيد العودة إلى النظامين الأحاديين في الشمال والجنوب، إنما يمثل خطوة شجاعة ومتقدمة باتجاه "شمال جديد" و" جنوب جديد" مختلفان كليةً عما قبل 1990م، وهذا لن يمثل إلا مكسبا للشعبين في الشمال والجنوب على السواء، وكل هذا بطبيعة الحال لا يعني إغفال أبواب وممكنات التواصل والتعاون والشراكة بين الشعبين والدولتين الشقيقتين الجارتين المتعايشتين.
لكل العقلانيين والعصبويين أقول اهملوا ما يقوله الآخرون عن اليمن واليمنيين وانسوا حكاية من مع أو ضد وحدة أو انفصال اليمن، وابحثو عن إجابة للسؤال: ماذا قدمتم للشعبين في الشمال والجنوب منذ العام ١٩٩٠م؟ ، وادرسوا بعيدا عن العصبوية والتهييج وثقافة التغشيش الاستظهار، أسباب فشل المشروع الوحدوي، ولو فعلتم فستجدون أن من يقول باستحالة قيام دولة يمنية واحدة يصيب الحقيقة كل الحقيقة، أما العواطف والرغبات والتمنيات فهي لا تعرف الحدود ومن حق كل منا ومنكم أي يتمنى ما يشاء لكن عليه أن يحترم الحقائق الصلبة والعنودة الماثلة على الأرض التي تقول أننا بحاجة إلى مئات السنين لردم الفجوة بين الشعبين والبلدين، وأقلها لترميم الشرخ النفسي والثقافي والمادي والاجتماعي الذي صنعه الغزوان البغيضان في 1994م و 2015 م.
وللجميع التحية والتقدير.