أزراج عمر يكتب:
البحث عن مدينة بلا أبواب
من المميّزات الملفتة للنظر للدراسات الثقافية الجهوية والحضرية، التي تشهد ازدهارا منذ مدة في الجامعات الأوروبية والأميركية، أنها تركز تركيزا قويا على الدور المحوري الذي يلعبه المكان أو المنطقة في صياغة الهويات الثقافية وأنماط الشخصية، وفي توليد شبكات من العلاقات الاجتماعية التي تفضي إلى ردود فعل سياسية.
وفي الواقع فإن هذا التخصص المدعوة بدراسات الجهوية والحضرية لم ينطلق من الفراغ وإنما له مرجعيات وأصول تعود إلى ما يسمى بتقليد الدراسات الجغرافية، سواء في مجال توزيع السكان أو في تحديد تقاليد وأعراف معيّنة أو في الكشف عن تجربة ثقافية مهيمنة أو ثانوية.
إلى جانب ما تقدّم هناك، دون أدنى شك، التأثير الحاسم للدراسات التي مارسها ونظر لها المؤرخ الفرنسي المدعو بمؤرخ مدرسة الحوليات وهو فرنان بروديل، وخاصة في أعماله التي رصد فيها خصائص شخصية فرنسا عبر التاريخ، وهي التجربة الفكرية التي نسج على منوالها كثير من الدارسين في العالم بما في ذلك المفكر المصري جمال حمدان الذي رصد في مؤلفاته المكتنزة، وعلى نحو خاص، في كتابه المكرّس لتحليل وإبراز مكوّنات شخصية مصر الحضارية والتاريخية من منظور جغرافي.
ويلاحظ أيضا أن الدراسات الثقافية المعاصرة التي تأسست في بريطانيا بمركز برمنغهام الجامعي قد انخرطت بدورها في الاهتمام بدراسة التوزيع الطبقي لطبقات المجتمع البريطاني، مع التركيز على الجغرافية الأيديولوجية والثقافية لكلّ من الطبقة العمالية والطبقة البرجوازية، ولقد تطوّر النقاش حول هذا التشكيل الطبقي الاجتماعي المعقد إلى نقاش مثمر حول تأثير المكان على عدد من الظواهر بما في ذلك ظاهرة التمييز الإثني والعرقي المتنوع في لندن وعبر المدن البريطانية الكبرى وعلاقة كل ذلك بتمايز الهويات وصراعها أحيانا.
والحال فإنَ هذا التوجه في تحليل بنيات المجتمع على أساس جهوي جغرافي/ مكاني قد تطور على أيدي الدارسين والمعماريين والمفكرين ونقاد الثقافة الكثيرين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، ليشمل مختلف أوجه الحياة، فهذا المفكر الفرنسي البارز بول فيريلو قد كرّس عددا من مؤلفاته منها كتابه المعروف والمؤثر وهو “البعد الضائع”، لمناقشة مشكلات المعمار الحضري المعاصر التي أصبحت تقلق الناس وتحيّرهم حيث السكان لا يقدرون على معرفة أين “تبدأ المدينة التي ليس لها بوابات” مثل المدن الكبرى التي تعجَ بملايين السكان ذوي الانتماءات المختلفة إلى أنماط الثقافات والديانات والأجناس؟
وقد أطلق فيريلو وصفا دقيقا لمثل هذه المدن بأنها تنتج الإحساس بالواقع المفرط لدى الناس، ثم لاحظ كذلك أنه “إلى جانب تغير البشر بسبب ترويض النار والمياه والريح، وإلى جانب تبدل البيئة الطبيعية التي تثيرها أنواع جديدة من مصادر الطاقة فإننا نستطيع أن نضيف الآن تأثير الأنواع الجديدة من المعلوماتية والتوزيع الحضري عن بعد المفاجئ”. ومن الطريف أن ميشال فوكو الذي يعتبر واحدا من كبار مهندسي الفكر الأركيولوجي والجينيالوجي في الفكر الأوروبي/ الغربي المعاصر قد اقتفى أثر مفاهيم بول فيريلو، حيث قام بالكشف عن أنماط من الاستعمار التي لاحظ فيريلو انتشارها في فضاءات المجتمعات الأوروبية/ الغربية على نحو خاص منها نمط الاستعمار الداخلي المحايث والاستعمار الخارجي.
بالنسبة إلى ميشال فوكو فإن الاستعمار الداخلي هو شبكة من ممارسات الهيمنة، والسيطرة التي تنتجها، ثم تفعَلها، ثقافة معينة أو طبقة اجتماعية ما في مجتمع معيّن على نحو ذاتي وتنتمي إلى الإطار الجغرافي الوطني كما حدث، مثلا، عندما قامت السلطات في فرنسا باستعمار نفسيات وأجساد قطاع من المواطنين الفرنسيين بحجة أنهم موصومون بأنهم مجانين أو مجذومون أو أنهم يعانون من تعقيدات نفسية.
وهذا ما حصل على سبيل المثال للفئة البشرية المدعوة في الأدبيات السياسية والاجتماعية الفرنسية بالأقدام السوداء الذين ميّزوا إثنيا واجتماعيا، وجرّاء ذلك تم إرسالهم إلى الجزائر. ولهذا السبب تميّز النقد الفلسفي والثقافي عند فوكو بترسيم معادلة يتبادل فيها الفضاء العلاقة المولدة للمعرفة والقوة في آن واحد. وهكذا نجد فوكو يتحدث بإسهاب عن العنف الذي يمارسه المعمار في تشكيل هذا النمط أو ذاك الذوات وفق النسق الذي يفرضه مجتمع ما أو جراء النظام السياسي وقوانين العزل والإقصاء التي تكرَس دراما الإنسان داخل الفضاء السالب للشرط الإنساني مثل السجون، والمنافي والمعتقلات.
لاشك أن تحليل وتشخيص الأثر المتبادل بين المكان وعناصره المعمارية في أعمال مفكرين آخرين أمثال بيير بورديو، ستكشف أن أشكال العنف الرمزي والمادي ينتجها الموقع الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي أو الإثني، وتعسف الذكورة أيضا، وعلى هذا الأساس فإن الفضاء ليس مجرّد جماليات خارجية وإنّما هو جزء من تضاريس العالم النفسي والمادي معا.
وهكذا يمكن القول، مثلا، بأن فكر مفكر كابن خلدون، أو فكر فيلسوف وضعي منطقي معاصر كزكي نجيب محمود يمكن أن يتحوّلا دون أدنى شك إلى ورشة عمل خصب لاستخراج علاقة التأثير التي تتأس بين الإنسان، والسرديات التي تبني هويته في تراثنا الاجتماعي، وبين فضائه الجغرافي وفي المقدمة معمار الفضاء الذي ينتج علاقة القرابة التي تنتج عنها ثقافة العصبية عند الأول، وثنائية السماء والأرض المتوازية في التكوين الداخلي للشخصية العربية الإسلامية كما في فكر نجيب محمود.