جويس كرم يكتب:

الناتو مهدد من قياداته

التهديد الأكبر الذي يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) اليوم، ليس من روسيا أو الصين أو التنظيمات الإرهابية، بل ينبع، كما عكست قمة لندن، من الخلافات والتجاذبات التي خرجت إلى العلن بين قياداته.

فبين الفيديو المسرب لرؤساء وزراء كندا جاستن ترودو وبريطانيا بوريس جونسون وهولندا مارك روت والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأميرة آن وهم يستهزئون ويضحكون على أسلوب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جهة، وتعنت وعزلة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من جهة ثانية، يبدو الناتو مهددا من الداخل وفاقد للرؤية السياسية.

فاليوم، فرنسا ـ ماكرون تقلل من أهمية تهديد روسيا وترى أن الناتو في حالة "موت ذهني". وكما بدا من إيجاز ترامب ـ ماكرون، الخلافات بينهما حول تركيا والصواريخ الروسية ومقاتلي "داعش" وضرائب أميركية محتملة على النبيذ الفرنسي وأخرى فرنسية على شركات المعلوماتية الأميركية هي أكبر من خلافات ماكرون مع فلاديمير بوتين.

روسيا والصين هما أكبر المستفيدين من التشرذم داخل الناتو

فماكرون تساءل عن معنى التفوق العسكري للحلف عندما تختار أنقرة شراء منظومة أس 400 الروسية القادرة على التجسس والتقاط رادارات الطائرات الأميركية وغيرها في الفضاء التركي. وعن معنى اصطفاف ترامب مع إردوغان للخروج من سوريا وإعلان انتصار مبكر ضد "داعش" والتنظيم متغلغل في بلاد الشام والرافدين.

أما أميركا، التي مولت الجزء الأكبر من موازنة الحلف طوال العقود السبع الأخيرة، فهي تتساءل، وعن حق، أين باقي الدول من موازنته. وعن سبب امتناع كندا عن زيادة مساهمتها المالية كما فعلت ألمانيا.

وبسبب التحولات الأمنية الأميركية يريد ترامب أن يزيد الحلف من تركيزه على العملاق الصيني الصاعد بوجه أميركا في مختلف القارات، فيما يتردد الأوروبيون في الموافقة على هكذا نهج.

وقد انعكس التردد الأوروبي في تفادي الأوروبيين، وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خوض معركة اقتصادية مع شركة الاتصالات الصينية هواوي مع تزايد مخاوف واشنطن من أن أجهزة الشركة قادرة على التجسس لصالح بكين.

أما تركيا، وهي الطفل المشاغب في الحلف، اختارت بداية عرقلة خطط الناتو في الدفاع عن البلطيق قبل أن تتراجع بعد لقاء مغلق لترامب مع إردوغان. لكن التعنت التركي هو في صلب استراتيجية إردوغان داخل الناتو، عبر ابتزازه الأوروبيين في قضية اللاجئين السوريين والتلويح بتوقيع عقود دفاعية أضخم مع موسكو. فأنقرة تعلم أن الناتو غير قادر على التخلي عنها كقوة عسكرية وكممر حيوي إلى القارة الآسيوية وللوصول إلى أفغانستان.

أما الأوروبيون عموما، فرغم زيادة نسب مساهماتهم المالية في موازنة الناتو، فهم ليسوا في ذهنية بناء قوة عسكرية نموذجية، خصوصا ألمانيا، التي ذاقت الأمرين من هذه الذهنية في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.

أخطر ما في هذا الأمر أن يتحول الناتو إلى مجلس أمن دولي ثان، مشلول تماما جراء الخلافات السياسية

النجاح في إعادة توزيع موازنة الحلف ودفع ألمانيا نفس النسبة التي تقدمها أميركا مقابل اقتراب وصول الباقين من عتبة الـ 2 في المئة من الدخل الوطني كمساهمة في ميزانية الدفاع، هو إنجاز ليس بصغير. حماية دول البلطيق وزيادة القوة العسكرية هناك هو أيضا ليس بالإنجاز البسيط وبدأ يقلق روسيا.

في الوقت عينه، لا تعكس القوة السياسية اليوم هذه القوة المادية، وسط التشرذم بين قيادات الناتو والتصدع حول ملفات هامة من "داعش" إلى تركيا وروسيا والصين. أخطر ما في هذا الأمر أن يتحول الناتو إلى مجلس أمن دولي ثان، مشلول تماما جراء الخلافات السياسية.

دخول ترامب في العام الانتخابي، سيعني تفاقم هذه الخلافات مع إمكانية الجنوح صوب أجندة شعبوية أميركيا، أما ماكرون فهو وضع أسهمه في مواجهة مع إردوغان بانتظار ما سيؤول إليه الوضع في سوريا.

روسيا والصين هما أكبر المستفيدين من التشرذم داخل الناتو. سيوظف بوتين هذا التشرذم لتقوية العلاقة مع فرنسا وتركيا، مقابل استمرار الصين بتحسين علاقتها وتعاونها مع القارتين الأوروبية والأفريقية ومع دول الخليج سواء تذمر ترامب أو لم يتذمر.