أزراج عمر يكتب:

فلسفة اليومي تحرر الإنسان المعاصر

على مدى سنوات ليست بالقليلة والساحة الفكرية الأوروبية/الغربية تشهد مراجعة جذرية لماهية الفلسفة ودورها ووظيفتها في الحياة، وفي ترقية الفهم البشري، ولكيفية تدريسها، حيث تم وضع التقليد الفلسفي النسقي التقليدي تحت مطرقة النقد من أجل إنزالها من برجها العاجي وإبعادها عن تلك الطقوس التي تنطوي فيها على نفسها وتحصر مهمتها في مجرد طرح أسئلة الوجود الكبرى، أو النظر في الكليات، أو مساءلة العلم وتوفير الأسس المنطقية له، أو نحت وتوليد المفاهيم كما ذهب إلى ذلك الفرنسيان جيل دولوز وزميله غتَاري في كتابهما “ما هي الفلسفة”.

ولقد ساهم هذا التغير ولا يزال يساهم في جعل الفلسفة تتدخل بقوة في الحياة اليومية للإنسان المعاصر لا لتفسير تعقيداتها وإدراك مشكلاتها فقط وإنما من أجل تحرير هذا الإنسان نفسه أيضا من وعيه المزيف، ومن ثقافة التشيؤ، والاغتراب، ومختلف أشكال استعمار الذوات.

ومن رواد هذا المنعطف الفلسفي المفكر الفرنسي هنري لوفيفر الذي استقطب في السنوات الأخيرة، وخاصة في بريطانيا، الاهتمام بفكرة فلسفة اليومي كما تجلى في كتاباته وعلى نحو خاص في مجمل كتاباته التي اصطلح عليها بفلسفة الحياة اليومية وذلك انطلاقا من كتابه الموسوم “نقد الحياة اليومية” في عام 1945 وصدر له في عام 1947، ثم تبعه بثلاثة كتب أخرى خصصها كلها لنقد الحياة اليومية وهي على التوالي “نقد الحياة اليومية: أسس لعلم اجتماع اليومي”، و”نقد الحياة اليومية: من الحداثة إلى الحداثية”، و”تحليل الإيقاع”.

ومن أبرز عناصر فلسفة لوفيفر أيضا انشغاله المبكر بمسائل الفضاء والزمان وترابطهما بالحياة اليومية ولقد تمخض ذلك عن 70 كتابا تركها وراءه بعد وفاته منها كتاب يحتل راهنا مكانة متميزة في الدراسات الحضرية والثقافية المؤسسة على علم الاجتماع والفلسفة وهو إنتاج الفضاء.

وهنا نتساءل: ماذا تعني فلسفة الحياة اليومية عند لوفيفر تحديدا؟ وعلى أي أسس نظرية تقوم بالضبط؟ وما هو موقف المفكرين الغربيين من أفكار لوفيفر التي تعتبر العمود الفقري لفلسفة اليومي التي يعتبر أحد أبرز مؤسسيها في المشهد الفلسفي الأوروبي المعاصر؟

بادئ ذي بدء ينبغي التوضيح بأن تشكل فكر لوفيفر فلسفي منذ البداية، وإلى جانب ذلك فهو قد تمكن من المشاركة منذ العقود الثلاثة الأولى للقرن الماضي في تدشين ما يسمى بالهجنة النظرية المركبة التي تتضافر فيها روافد معرفية أخرى مثل فلسفة هيغل والماركسية وعلم الاجتماع والأدب والموسيقى وجماليات الفضاء والتحليل النفسي والثقافة اليومية، حيث أنه بهذا يعتبر أحد المؤسسين، ولو بشكل غير مباشر، للتخصص المزدوج المعروف الآن بالنقد الثقافي والدراسات الثقافية في طبعته الغربية.

ويرى النقاد في الغرب أن فلسفة اليومي عند هنري لوفيفر تتركز على نقد الرأسمالية الحديثة في المجتمع الفرنسي أولا وفي الغرب ككل ثانيا، وبهذا ندرك أن مدرسة فرانكوفرت، التي تأسست في العشرينات من القرن الماضي، وعنت بنقد الجذور الثقافية والفلسفية والمادية للرأسمالية وللعقل الأداتي الذي يسندها نظريا، ليست وحدها الظاهرة الفكرية التي وظفت الرؤية الماركسية المتطورة المسنودة بمنجزات التحليل النفسي، من أجل فهم كيف تعمل الثقافة الرأسمالية في المجتمع وكيف تقوم بتشييئ وتغريب الإنسان الذي حول إلى مستهلك، وذلك رغم أسبقيتها بزمان قصير من حيث التأسيس في إطار مركز بحثي جماعي بزمان، بل إن لوفيفر له إسهامه النوعي في هذا الحقل النقدي أيضا.

يمكن لنا تحديد خصائص تجربة اليومي في نقطتين أساسيتين وتتمثل الأولى في معالجة “التجربة اليومية” التي توصف بأنها “مستعمرة بالبضاعة المظللة بعدم الأصالة”، وفي هذا الخصوص بالذات ترى الناقدة إليزابث ليباس أن مشروع لوفيفر المتمثل في نقد الحياة اليومية يدخل في إطار استراتيجيات الدفع بأفق التنوير إلى أقصى حدوده. ومن جهة أخرى فإن هذا المشروع في تقديرها “يمتص ويولَد ويجمع فعليا مجمَل انشغالاته الفلسفية، وفي قلبها الإنسان: الإنسان الشامل”. ويطمح هذا المشروع إلى بلورة فهم جديد للشرط الإنساني تحت وطأة الرأسمالية وإمكانية الخلاص من خلال الوعي.

على صعيد تفكيك منظومة السياسة التي تفرض على الأفراد فإن فلسفة اليومي عند لوفيفر تميز بين مصطلح السياسة التي تعني ممارسة العمل السياسي اليومي وما يستتبعه من الالتفاف حول خطابات تسوَغ حشد المواطنين حول حزب ما أو أيديولوجيا محددة وبين مصطلح السياسي الذي يعني منتجات العقل في مجال التفكير السياسي الهادف إلى إنتاج وتشكيل هذا النمط أو ذاك النمط الآخر المخطط له مسبقا من الذوات التابعة والخاضعة وحسب مقاس هذا الحزب أو تلك الأيديولوجيا.

إن ما يميز مضمون مصطلح فلسفة الحياة اليومية عن مضمون سوسيولوجيا الحياة اليومية في سياق نظرية لوفيفر هو أن الأول هو تطوير “مفهوم المعيش، أو عالم الحياة”، وهو “فلسفة اليومي للنزعة الإنسانية الثورية” كما توضح الناقدة ليباس، ونفهم أيضا أن هذا المصطلح يعنى على نحو شديد الخصوصية بنزع الحجاب عن بنيات الوعي ومنظومة الأفكار المحيطة بالرأسمالية بما في ذلك أقنعتها التي تخفي المعنى الجوهري، أي الناظم الكلي الذي يريد تكريس نموذج دوغماتي في المجتمع ليفرَخ بالتالي نمط الإنسان الخاضع الذي تعمل على صياغته بواسطة قوالب وبنيات وأجهزة معدة سلفا أيضا، أما المصطلح الثاني فيخص تحليل مكونَات المجتمع والعلاقات السائدة فيه وهي بذلك علم اجتماع وضعي للحياة اليومية