أزراج عمر يكتب:

العرب ترجموا العقل الغربي فجنى عليهم

نشطت حركة الترجمة بشكل كبير في العالم العربي في السنوات الأخيرة، لكن تبقى هناك إشكاليات كثيرة على عاتق المترجمين، ما يحتم ضرورة إنشاء مراكز للترجمة تنسق الجهد وترسم الخطط الواضحة. وهو ما حدث بالفعل في بعض الدول العربية، لكن ما زالت حركة الترجمة تعاني من قصور كبير.

من الملاحظ أن حقل الترجمة في البلدان العربية يعامل كنشاط ثانوي ما عدا استثناءات قليلة جدا تتمثل في جهود كلّ من الكويت، والمجلس الأعلى للترجمة في مصر، ودار الحكمة في العراق، والإمارات العربية المتحدة، والمنظمة العربية للترجمة، فضلا عن محاولات عدد من دور النشر في المشرق العربي نذكر منها على سبيل المثال فقط دار الآداب التي كان لها الفضل في الماضي في تعريف القارئ العربي بكثير من المؤلفات الأدبية والفلسفية الغربية خصوصا ولكن النشاط الحيوي لهذه الدار قد ضمر بعد رحيل مؤسسها الأديب الموسوعي والمترجم الدكتور سهيل إدريس.

تفيد الإحصائيات المتداولة في مراكز سبر الآراء عندنا أن الترجمة في بلداننا، كمؤسسات مكوّنة للكفاءات المتخصصة والمبدعة وكفعل ترجمي إبداعي يومي، لا تزال ضعيفة قياسا بديناميكية مؤسسات الترجمة المتطورة التي تكوّن أرقى المترجمين المتخصصين أو بحركة ترجمة المؤلفات الأساسية في مختلف حقول المعرفة الإنسانية في الدول الغربية، أو الآسيوية التي وصفها الإعلامي المصري الشهير محمد حسنين هيكل بأنها فازت برهان الدخول في التاريخ والحداثة.

يقدر المتخصصون في متابعة شؤون الترجمة ببلداننا أن ما تترجمه إسبانيا وحدها يفوق من حيث العدد على الأقل ما تترجمه كل الدول العربية والسبب في ذلك هو أنَ استراتيجيات الترجمة في الدول المتطورة مرتبطة بعنصرين أساسيين وهما التنمية العصرية بكل أنواعها وبديمقراطية الكتاب الذي توزع المعرفة من خلاله بعدالة على أفراد المجتمع وهذا ما نفتقده في بلداننا.

أما من الناحية المادية فإننا نجد البلدان الأوروبية تخصص ميزانيات ضخمة تسخّرها لصالح تفعيل عمليات إنجاز ترجمة مستجدات العلم والفكر والآداب والفنون من مختلف اللغات في العالم إلى اللغات الأوروبية الحيّة، أما بلداننا فلا تخصص إلا ميزانيات مجهرية لا تشجع الفاعلين في حقل الترجمة للقيام بترجمة أمهات مصادر المعرفة بكل أنواعها بما في ذلك مجالات التقنيات والمهنيات والآداب والفلسفات و مختلف أنواع العلوم.

ومما يؤسف له هو أننا نتعرف على جزء ضئيل جدا من المعارف التي تنتج في العالم بعد مضي سنين طويلة على إنتاجها وترجمتها في أميركا أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا أو إسبانيا وهلمّ جرا، أو في دول متقدمة في الشرق الأقصى. والأدهى والأمرّ هو أن بلداننا لا تعرف أيّ شيء له صلة بالإنتاج المعرفي لدول الشرق الأقصى التي فرضت نفسها على أوروبا وبذلك فقد أصبحنا نرى الصين واليابان وكوريا وإندونيسيا وغيرها مجرد نقاط مبهمة على الخارطة الجغرافية فقط.

استراتيجيات الترجمة في الدول المتطورة مرتبطة بعنصرين أساسيين وهما التنمية العصرية وديمقراطية الكتاب

لا شك أن ما ترجم حتى الآن في بلداننا لا يلبي، من حيث العدد، مطالب قاعدة قرائنا التي تزداد اتساعا بالإضافة إلى ذلك فإنّ الترجمات التي تنجز عندنا تخنقها الجمارك المصفحة بالبيروقراطية القاتلة وجرّاء ذلك فإنها لا توزع بحرية في بلداننا، أما من حيث النوعية فإن أغلب ما يترجمه مترجمونا لا يخضع غالبا لمعايير دقيقة ولمدى احتياجاتنا الروحية والمعرفية والمادية بل هو مجرد محاولات تقوم بها مجموعات معزولة أو أفراد حيث يختزل ما يترجم غالبا في الإنتاج الأجنبي الفلسفي والأدبي وفي العلوم الاجتماعية. أما حقول الفكر السياسي المتطور، وتجارب التنمية الأكثر عصرية، والعلوم الطبية والفيزياء وعلوم التقنيات والصنائع فنادرا ما نجد لها اُثرا يذكر عندنا.

في هذا السياق نتساءل: ماذا قدمت الترجمات المنجزة عندنا حتى الآن لمجتمعاتنا على مدى العقود الخمسة الماضية؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال سأركز على مجالين فقط قصد الابتعاد عن التعميم، وهما مجال الفكر السياسي الاجتماعي، ونظرية الأدب.

من المعروف أن فترة الخمسينات وحتى أواخر السبعينات من القرن العشرين شاهدت بلداننا صدور ترجمات في مجال الفكر الاشتراكي ونقد الرأسمالية بالتركيز على النظرية الماركسية، ومن الملاحظ أن توجه المترجمين عندنا لم يكن مؤسسا على الوازع الفكري المعرفي بقدر ما كان مدفوعا بدافع تجاري حينا وأيديولوجي دعائي طورا آخر. ولقد أدى ذلك إلى بروز مشكلة كبيرة في المشهد الفكري العربي وهو قلع قشور النظريات الماركسية من تربتها وشروطها التاريخية التي أنتجتها والعمل بعدئذ على إسقاطها تعسفيا على مجتمعاتنا العشائرية والقبلية والطائفية الغارقة في شتّى أنماط أميات القراءة والكتابة والمفاهيم والتي لم تصنع شخصيتها الصناعية والطبقية التي يفترض أن يشتغل فيها الديالكتيك المادي والتاريخي الماركسي.

 وأكثر من ذلك فإن السجالات التي أثرتها تلك المؤلفات المترجمة بقوة بين أفراد الأنتلجنسيا عندنا لم تكن حول البحث عن سبل عمل تلك النظريات في واقعنا أو الكشف عن الأزمة التي تنشأ جراء عدم ملاءمة تلك النظريات للنسيج الثقافي والأخلاقي والنفسي لمجتمعاتنا، ولنمط الإنتاج الأفرو/ آسيوي الذي يميّز بنية ذلك النسيج بل فإن الذي حدث هو التطاحن حول التفسيرات الأكاديمية الخشبية لتلك النظريات وإشعال نيران التقسيمات الأيديولوجية أيضا.

أما ترجمة النظريات الأدبية الغربية إلى اللغة العربية فقد عرفتنا تقريبيا على زخم النقد الغربي وتطوراته من جهة ومن جهة أخرى فقد أدت إلى تكديس المصطلحات والمناهج في الممارسات النقدية العربية وفي المناهج التعليمية في جامعاتنا ومعاهدنا العليا علما أن تلك المصطلحات والمناهج منتوج جهاز وبنية العقل الأوروبي/ الغربي.

وبذلك صار النقد الأدبي عندنا معياريا على نحو مسبق، ومحكوما أيضا بمستوى ذلك العقل الفلسفي جراء عدم تعديل النظريات أو إضافة شيء خاص بنا إليها ونتيجة لهذا تمّ إخضاع نصوص أدبائنا لأحكام ذلك العقل الغربي نفسه بوعي حينا ومن دون وعي غالبا. وهو الأمر الذي انتبه إليه الشاعر اللبناني يوسف الخال حين قال “بين كوننا شكلا في العالم الحديث، وكوننا جوهرا من خارجه تناقض يضطرنا إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم. ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرّض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ العربي مستورداً غربياً”