أزراج عمر يكتب:

لماذا لم يُستكمل مشروع جورج طرابيشي؟

في مارس 2016 رحل المفكر والمترجم والكاتب السوري جورج طرابيشي بعيدا عن وطنه في باريس، لنفتقد مفكرا سوريا عربيا قدم الكثير للفكر العربي، وعمل على تحديث العقل، فكان قلما غزيرا خاصة في ما يتعلق بترجماته الكثيرة الأدبية والفكرية. ولكن مشروع طرابيشي على أهميته لم يقع الاهتمام به بالشكل المطلوب، بعيدا عن السطحية والانتقائية في التناول، فأهملت مثلا جوانب مؤثرة في مجال تناوله لعلم النفس وتطبيق نظرياته، ليبقى مشروع المفكر مجتزأ إلى الآن.

مضى على وفاة المفكر والمترجم السوري جورج طرابيشي أكثر من ثلاث سنوات، وهو الذي ترك وراءه العشرات من الأعمال النقدية والفكرية والترجمية حيث هناك من يقدَر عددها بمئتي كتاب.

رغم وفرة وتنوع إنتاج جورج طرابيشي فإنه يلاحظ أن الدراسات الجادة التي تناولت حتى الآن إسهامه الموسوعي قليلة وتشترك في الغالب في خاصية يمكن تحديدها في أنها لم تطور مشروعه النقدي ولم تقم بتمحيص وتنقيح ترجماته التي كرسها للنظرية الماركسية وللنظرية النقدية الألمانية ولأعمال المحلل النفسي سغموند فرويد بشكل خاص.

إلى جانب هذا التقصير فإن ما كتب حول إنتاج طرابيشي لا يشكل وثبة لها فرادتها تجعل من النظرية النقدية ومن التحليل النفسي جزءا عضويا من البناء النظري والممارسة النقدية في مشهد الثقافة ببلداننا وتحديدا في مجالات رصد وإعادة بناء بنيات المجتمع، وتحليل الثقافة وتجلياتها في مختلف حقول الفكر والإبداع الأدبي والسينما والمعمار وهلم جرا.

لا شك أن ترجمات جورج طرابيشي المخصصة للفكر الماركسي ولبعض رواد النظرية النقدية، أمثال هربرت ماركيز، لا تقل أهمية عن ترجماته في مجال التحليل النفسي الذي بقي في مشهد الثقافة العربية مجرد نزوة هذا الفرد أو ذاك.

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن تطبيقات طرابيشي للتحليل النفسي الفرويدي التقليدي جديرة بالتأمل والكشف عن نقاط القوة والضعف فيها. في هذا الخصوص أريد أن أتوقف ولو بعجالة عند معلمين مهمين في نشاط جورج طرابيشي وهما النظرية النقدية والتحليل النفسي ترجمة وممارسة.

التحليل النفسي

أبدأ الآن بمعلم النظرية النقدية عند طرابيشي وألفت الانتباه منذ البداية إلى أنه قد ركز بإسهاب على النظرية وتطبيقاتها عند هربرت ماركيوز ولكنه لم يترجم أو يقدم تنوع فكر كل أقطاب مدرسة فرانكفورت الأساسيين منهم على سبيل المثال فقط أدورنو وهورخيمر وهابرماس.

من الملفت للنظر في هذا الصدد هو أن ترجمة طرابيشي لكتابي “الإنسان ذو البعد الواحد” و”نحو نقد النظرية الجمالية الماركسية” قد ساهمت في تغذية النقاش بين نقاد الفكر عندنا حول محورين يتمثل الأول في النظرية التي تساعد على فهم الأثر المتبادل بين البنية المادية (الإنتاج ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج) وبين البنية الفوقية (الثقافة والأيديولوجيا والأداب والفنون والفلسفة) في صنع أو طمس العلاقة التضافرية بين الوعي وحركة التاريخ.

أما المحور الثاني إخفاق تحقق الثورة في المجتمعات الرأسمالية الصناعية رغم امتلاكها للرأسمال البشري الصناعي الذي استوعبته تطبيقات الليبرالية الرأسمالية وفخ دولة الرعاية الاجتماعية الشكلية التي وظفت في المجتمعات الأوروبية الرأسمالية الصناعية الكبرى بهدف امتصاص غضب شريحة العمال وثنيهم عن التمرد على أرباب العمل حين فقدانهم للعمل أو حين عدم كفاية الدخل المالي الذي يتقاضونه والذي تقوم الدولة بتعويضه بمنح دعم المرتبات أو بعائدات يوفرها الضمان الاجتماعي.

أكثر من وجه
من بين أبرز النقاط التي أغنى بها جورج طرابيشي النقاش من خلال مقدمته لكتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” دعوته لفكر فرانز فانون الذي يعتبره معلما يضاف بجدارة إلى المحاولات الكبرى لاكتشاف قوانين التاريخ وذلك بإضافة فانون لفكرة مهمة وهي أن العالم ليس ذا بعد واحد أو كيانا مختزلا في ثنائية الصراع الطبقي الغربي بين أصحاب الرأسمال وبين العمال بل إن “تاريخ العالم لم يعد على ما يخيَل إلينا واحدا، لأن العالم نفسه لم يعد واحدا، إذ هناك عالم معذبي الأرض”.

وبالنتيجة يرى جورج طرابيشي أن تعدد العوالم هو الذي ينبغي أن يفترض أن يفرز بالضرورة سؤالين اثنين أحدهما لفرانز فانون وهو “كيف يمكن أن تقوم الثورة في عالم لا وجود فيه للقوة الكلاسيكية للثورة الاشتراكية ونعني الطبقة العاملة الصناعية؟” وسؤال هربرت ماركيوز الذي هو “كيف أن الثورة لم تتحقق بل باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة، أي البروليتارية الصناعية؟”.

لا شك أن تأمل هذين السؤالين أمر ضروري لكي نفهم الفرق الأساسي بين ثقافة عالم فانون الذي يفتقد إلى شرط الطبقة العمالية الصناعية والتكنولوجية والتقنية وثقافة عالم صناعي متطور يخطو باتجاه تجاوز معطيات المرحلة الصناعية الحديثة إلى المرحلة ما بعد الصناعة والتقنية. على أساس هذا الفهم والتمييز يمكن لنا فقط أن نبدأ في بناء جهاز النظرية النقدية الخاصة، ونعني بذلك جهاز نظرية النقد الثقافة الكبرى التي تقدر أن تعمل في واقعنا من أجل تحويله جذريا.

عدم تقبل عربي

في هذا السياق بالذات يمكن لنا أن ننتقل إلى المحور الثاني من مشروع جورج طرابيشي وهو ترجمة وتطبيق جهاز التحليل النفسي الغربي على الرواية العربية (أعمال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وكتابات نوال السعداوي) وعلى جزء من الفكر العربي من خلال تفكيك مشاهد اللاعقلانية في كتابات حسن حنفي ومحمد عمارة وقاسم أمين ومحمد عبده وغيرهم وكشف ما يتخلل هذه الكتابات من الآليات الدفاعية مثل النكوص والنقلة والإسقاط والإنكار وهلم جرَا.

يمكننا أن ندرك سبب عدم وجود استقبال حقيقي، في إطار متحد جماعي عيادي ونقدي ثقافي واجتماعي وسياسي وأدبي وفني، لمشروع جورج طرابيشي في التحليل النفسي ترجمة وتطويرا نظريا وتطبيقا له في مجتمعاتنا، ونعيد ذلك إلى عدم نجاح بيئاتنا على أن تنتج مشروعا تحليليا نفسيا له خصوصية منبثقة من مركب وجودنا الاجتماعي والنفسي.

وزيادة على ذلك فإن على مستوى الفكر العربي لم يدرك بعد، إلا نادرا، أنَ التحليل النفسي هو نوع من العقلانية الحديثة التي تكشف عن الطبقيات اللاواعية لخيبات وانحرافات العقل، وأنه أيضا نتاج وعرض للمجتمعات التي تفجرت فيها الثورات الصناعية التي أفرزت ولا تزال تفرز ظواهر الفردية النرجسية، والكآبة الناتجة عن تمزقات العائلة، والتهميش الإثني والعرقي، والاغتراب أمام الطبيعة التي تهددها التقنية وجراء فائض القيمة الذي لا يوزع على صنّاعه الحقيقيين