أزراج عمر يكتب:
الذاكرة الثقافية الجزائرية مدفونة في النكران
كل عام يمر تفقد فيه الجزائر جزءا مهمّا من مخزون ذاكرتها الثقافية الأمر الذي صار يهدد فعلا تاريخها الروحي بالتلاشي، ويتسبب في هذه الكارثة المسؤولون الجزائريون الذين ينصَبون على رأس القطاع الثقافي دون استحقاق، خاصة وأن معظمهم قد فشلوا في تفعيل الدور الحيوي للثقافة في بناء أركان التقدم وفي إدراك أن “الثقافة هي ما نتكوَن به والحضارة هي ما نعمل به” كما يقول المفكر المصري سلامة موسى.
وجراء ما ذكر وجدنا الجزائر معزولة وعازلة وتعيش منذ الاستقلال إلى يومنا هذا منولوجا ثقافيا متخلفا مما جعلها غير قادرة على صنع مكانة مرموقة لنفسها على الصعيد المغاربي والعربي المشرقي والأوروبي وهلم جرَا.
في هذا السياق أريد أن أعالج قضية تتعرض للتهميش باستمرار وتتعلق بجهل المسؤولين الجزائريين بالمثقفين الفرنسيين الكبار الذين وقفوا إلى جانب حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي حيث دفع بعضهم ثمنا غاليا جرَاء ذلك. إنه لحد الآن لم تنشئ وزارة الثقافة الجزائرية والمؤسسات المكلفة بالإشراف على كتابة تاريخ حركة التحرر الوطني أي مركز وطني تسند إليه مهمة جمع وحفظ ودراسة أرشيف كل ما كتب عن الجزائر في العالم وذلك في إطار تدوين مكوَنات ذاكرة التاريخ الثقافي الجزائري عبر مختلف المراحل التاريخية التي عرفتها البلاد بما في ذلك مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي التي دامت قرنا وثلاثين سنة.
مع الأسف هناك تعتيم مفرط ومقصود في الجزائر على الإنتاج الثقافي والفكري والفني الفرنسي الذي كان يدافع عن حرية الشعب الجزائري، ويدين الممارسات الاستعمارية والدليل على ذلك هو هذا التجاهل الكامل لكتابات المثقفين والمفكرين والشعراء الكبار أمثال أرثر رامبو وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وجان فرنسوا ليوطار وكرنيوليس كاستورياديس ولوي ألتوسير وميشاكل فوكو ولورانس باطاي وروجيه غارودي ومجموعة 121 المعروفين في التاريخ الفرنسي المعاصر بالمثقفين المعارضين لاحتلال فرنسا للجزائر وغيرهم كثير.
إن كتابات هؤلاء وغيرهم منبوذة جزائريا ومبعدة عن الحضور الفعلي في المشهد الثقافي والتعليمي الجزائري، حيث أنها لم تترجم وتوثق وتوزع وتدرج في الكتب المقررة في مختلف مراحل ومستويات المنظومة التعليمية، وفضلا عن ذلك فإن هذه المؤلفات الغنية والكثيرة لم تحوَل إلى مصادر تستقي منها المسلسلات التلفزية وأفلام السينما الجزائرية، والأدهى والأمر فإن أسماء أصحابها لم تطلق على الساحات والمؤسسات والشوارع عبر البلاد تقديرا لمواقفهم مع حركة التحرر الوطني الجزائري وتحويلا لهم إلى جزء من الإرث الرمزي لتاريخ المقاومة الفكرية والأدبية والفنية للاستعمار الفرنسي في الجزائر.
الجزائر أنكرت دور المثقفين الفرنسيين الذين ناصروا تحررها وبقيت معزولة وعازلة وتعيش منولوجا ثقافيا
في هذا السياق ينبغي ذكر بعض الشواهد القليلة جدا على سبيل المثال وليس الحصر، ونبدأ بالشاعر الأسطوري أرثر رامبو الذي لم تكرم الجزائر يوما ذكراه وموقفه علما أنه كتب في 2 يوليو 1869، وعمره لا يتجاوز 13 سنة قصيدته الشهيرة “يوغورطا” التي دعا فيها الجزائريين إلى قهر المحتلين الفرنسيين، وقال رامبو في هذه القصيدة الطويلة “آه فلتنهض الأسود العربية للحرب، وبأنيابها الناقمة فلتمزق كتائب الأعداء، وأنت يا صغير فلتكبر وليسعف القدر جهدك، فلا يدنس الفرنسيون بعد الآن شواطئنا العربية”.
ويجدر بنا أن نذكر أيضا مجموعة المفكرين الفرنسسين الذين أسسوا من عام 1948 إلى عام 1967 مجموعة تحمل اسم “اشتراكية أم وحشية” وضمت مفكرين كبارا أمثال هيوبرت داميش وغي ديبور وفنسنت ديكومب وجرار جينيت وبيير غيوم وكلود ليفورت وجان لابلانش وأدغار موران وكرنيوليس كاستورياديس وجان فرنسوا ليوطار، الذي أسندت إليه مهمة الإشراف على الملف الجزائري ومتابعة ودعم المقاومة الوطنية الجزائرية وتشهد كتاباته السياسية النقدية للاستعمار الفرنسي للجزائر وهي منشورة على صفحات مجلة هذه المجموعة المناصرة أيضا للمقاومة الوطنية الجزائرية.
في هذا الصدد ينبغي ذكر نضال مثقفة فرنسية بارزة انشقت عن مواقف والدها وهي لورانس باطاي (1930-1986) ابنة الممثلة الفرنسية المعروفة سيلفيا باطاي وجورج باطاي المفكر الفرنسي اليميني المعادي لاستقلال الجزائر. في هذا الشأن سجلت المفكرة والمحللة النفسية الفرنسية إليزابيث رودنسكو شهادة مهمة في كتابها الموسوم “جاك لاكان: تاريخ التحليل النفسي في فرنسا، 1925 - 1985”، وأكدت فيه أن لورانس باطاي، الكاتبة والمحللة النفسية الفرنسية، قد عملت مع خلايا النضال الجزائري السرية في فرنسا وكانت مهمتها نقل الأسلحة سرَا، عن طريق مارسيليا إلى المجاهدين في الجزائر وحين قبضت عليها المخابرات الفرنسية أودعتها السجن.
وفي دراسته حول دور المثقفين الفرنسيين أوضح الدارس جيمس.د لوسور في مقاله المنشور على صفحات مجلة شمال أفريقيا للدراسات أن حركة التحرر الوطني الجزائري قد لعبت دورا مفصليا في نزع الاستعمار عن “النزعة الكونية الفرنسية”، هذا ويدعم الفيلسوف الفرنسي ميرلو – بونتي ضرورة نزع الغطاء عن العنف الفرنسي في الجزائر وذلك في مستهل كتابه “الإنسية والإرهاب: المشكلة الشيوعية” الصادر في عام 1947 حيث أبرز أن “الليبرالية الغربية ترتكز على العمل القسري في المستعمرات والحروب العشرين حيث أنه من وجهة النظر الأخلاقية فإن موت الزنجي بالإعدام ودون محاكمة في لويزيانا، أو المواطن الأهلي في إندونيسيا، وفي الجزائر، أو في الهندو – صينية لا يغتفر أقل من موت روباشوف”. وفي كتابه الشهير “نقد العقل الجدلي” يقف جان بول سارتر ضد العنف الاستعماري الفرنسي في الجزائر “بطبيعة الحال، فإن هذا العنف، القسوة تجاه القبائل الجزائرية والعمليات المنهجية التي استهدفت انتزاع أراضيها هي بنفسها ليست أقل من تعبير العنصرية التجريدية الساكنة”