أزراج عمر يكتب:

الثقافة الأمازيغية الجزائرية.. بين مخاوف السلطة وخلافات النخب

تعدّ الثقافة الأمازيغية مكونا ثقافيا أساسيا لدى شعوب شمال أفريقيا، وبخاصة الجزائر، التي تعتبر أكثر البلدان المغاربية محافظة على هذه الثقافة العريقة، ولاسيما من خلال الالتفاتة إلى اللغة الأمازيغية بالاهتمام. لكن يبقى هذا الاهتمام منقوصا في حق حضارة وشعب أصيلين في المكان.

لقد مرت أكثر من ثلاثين سنة على الاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية في الجزائر وإدراجها كركن أساسي في الميثاق الوطني المعدل في ثمانينات القرن العشرين، ثم تلا ذلك إدراج اللغة الأمازيغية كلغة وطنية مرسمة في دستور الدولة.

ولكن اللغة والثقافة الأمازيغيتين لا تزالان تثيران الهواجس والمخاوف، وبسبب ذلك تطفو النزعات الجهوية والإثنية، وأحيانا يتم اختراع التطرف العرقي بدلا من تحويلها إلى لغة المحيط العام والعلم والفكر والفنون والأدب الراقي، ومن التوافق على الحروف التي تمنحها هويتها وفرادتها ومن ثمّ تطويرها لتقهر جاذبية الانقراض.

اللغة الأمازيغية
في هذا السياق يلاحظ أن مظاهرات الحراك الشعبي قد طرحت من جديد قضية الثقافة الأمازيغية ورموزها كركن أساسي من أركان الهوية الوطنية الجزائرية وذلك جراء رفع الشبان والشابات للراية الثقافية الأمازيغية في مظاهرات أيام الجمعة للحراك الشعبي. ويلاحظ أنه في هذه الأثناء قد برزت مجموعات متطرفة ترفض رفع هذه الراية بحجة أنها تزاحم العلم الوطني وتهدّد البلاد بانفصال المنطقة الأمازيغية، كما ظهرت مجموعات أخرى دافعت ولا تزال تدافع عن الإرث الثقافي واللغوي الأمازيغي بما في ذلك هذه الراية باعتبارها علامة ثقافية أكثر مما تجسده من نزعة الانفصال أو ما ترمز به إلى تقسيم البلاد على أساس إثني بربري/ عربي، ولقد طفت إلى السطح عناصر متطرفة أخرى ترافع عن الهوية الأمازيغية على الأساس العرقي.

في هذا المناخ عادت قضية الثقافة الأمازيغية من جديد إلى الواجهة السياسية الجزائرية وإلى الأخذ والردّ على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي وكأن الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية والذي تم ترسيمه دستوريا لم يعد يقنع المنطقة الأمازيغية والناشطين في الميدان الثقافي الإثني والمدرسين الذين أوكلت إليهم مهمة تدريس هذه اللغة في المدارس وفي الجامعة.

إنه إلى حد الساعة لم تشهد اللغة الأمازيغية في الجزائر الترقية المطلوبة لإخراجها من الأفق الشفوي الضيق إلى فضاء الكتابة والتدوين والوظيفة الإدارية.

قضية الثقافة الأمازيغية عادت مجددا إلى الواجهة السياسية الجزائرية وإلى الأخذ والردّ في وسائل التواصل الاجتماعي

وفي الواقع فإن المشكلة التي تعرقل الثقافة الأمازيغية بشكل عام ولغة هذه الثقافة بشكل خاص تتمثل في تعقيد أمورهما من طرف السياسيين وفي إهمال النخب لهما، الأمر الذي خلق تعقيدات كثيرة ما فتئت تحول دون رص الجهود لتطويرهما.

ومما يؤسف له أن الأخطار المحدقة بثنائية اللغة والثقافة الأمازيغيتين لم تخضع للنقاش الجدي على مستوى النخب التعليمية الأكاديمية والإعلامية والثقافية والفكرية، ولم تلفت انتباه المسؤولين في مختلف مؤسسات الدولة وخاصة على مستوى جهازي وزارة الثقافة، والمنظومة التعليمية، والمحافظة السامية للغة الأمازيغية التابعة مباشرة لرئاسة الدولة منذ تـأسيسها في عام 1995 في عهد الرئيس الجزائري السابق اليمين زروال، حيث حددت مهامها الأساسية في “ترقية وإدماج اللغة والثقافة الأمازيغيتين في النسيج التنموي والاجتماعي الجزائري”.

وتفيد التقارير ومعطيات الواقع أن هذه المحافظة السامية قد تمكنت منذ تأسيسها حتى الآن من “إدخال الأمازيغية في النظام التعليمي الأساسي والثانوي بمختلف المحافظات الجزائرية. وفتح فرع لشهادة البكالوريوس في الأمازيغية، وتكوين مئات الأساتذة الجامعيين، وتنظيم دورات تدريبية في مواضيع تهم القضية الأمازيغية، وتخصيص نشرات إخبارية بالأمازيغية في التلفزيون الجزائري، واستعمال اللغة الأمازيغية في النقاشات بمجلس الأمة (البرلمان الجزائري)”.

الترجمة من وإلى

لا شك أن هذه الإنجازات مهمة، ولكنّ هناك مشكلة مفصلية مركبة نجدها مستبعدة حتى الآن من النقاش وتتمثل في تقدير العارفين بالشأن الثقافي الجزائري في تحويل السلطة للتعددية الثقافية الإثنية في الجزائر إلى مشكلة تصوّرها كمهدد للوحدة الوطنية بدلا من الترحيب بها كمعطى وطني نابع من تاريخ الجزائر، ومن استثمار رأسمال هذا التنوع الثقافي في بناء النهضة الوطنية لإخراج البلاد من التخلف البنيوي، وفي المقدمة التخلف السياسي والثقافي والحضاري.

إلى جانب هذه المشكلة التي ينبغي أن تزول، هناك مشاكل أخرى لم تعالجها المحافظة السامية للغة الأمازيغية، أو وزارة الثقافة، أو وزارة التعليم بأنماطها؛ الابتدائي والثانوي والعالي، وتلك الجمعيات الثقافية ذات الصلة بقضية اللغة الأمازيغية وثقافتها. تتلخص المشكلة الأولى في عدم وضع خارطة طريق عملية وفق برنامج زمني للشروع في توحيد مكونات عناصر اللغة الأمازيغية وتقعيدها والاستفادة من التجارب اللغوية الناجحة للنسج على منوالها، منها تجربة اللغويين العرب القدامى الذين بنوا أسس اللغة العربية التي تعد نموذجا مهما في هذا المضمار.

وينبغي أيضا الحسم في إقرار حروف اللغة الأمازيغية وتعميمها رسميا حتى يتم الشروع في تدوين تراث الثقافة الأمازيغية والتدريس بها فضلا عن إصدار الكتب والنشريات والجرائد والمجلات التي تلعب دورا مفصليا في تكريسها.

ولا شكّ أن الإبقاء على الحروف اللاتينية التي تكتب بها اللغة الأمازيغية راهنا يخل بتاريخيتها وهويتها ويبقيها فريسة للنزعة الفرنكوفينية المصفّحة للتبعية للمراكز الاستعمارية التقليدية. لكي تتجاوز السلطات الجزائرية تقصيرها تجاه اللغة الأمازيغية وثقافتها يستحسن فعلا إنشاء كتابة دولة للغة والثقافة الأمازيغيتين توكل إليها عملية الإشراف المادي والسياسي على تنسيق ودعم وتطوير جهود المحافظة السامية للغة الأمازيغية، والجمعيات الثقافية الأمازيغية الكثيرة، ووزارات التعليم الابتدائي والثانوي والعالي والاتصال.

ينبغي التنبيه إلى الخطر الذي يهدد اللغة الأمازيغية بالانقراض التدريجي وهو افتقارها إلى وسائل الإعلام الخاصة بها مثل الجرائد اليومية والمجلات المتخصصة التي تضاف إلى الإذاعة والتلفزيون المتوفرين على المستوى المركزي وفي بعض المحافظات، وإلى مشروع تدوين قاموس موسع ودقيق لمفردات وأفعال اللغة الأمازيغية والعمل على تطوير العمل به جنبا إلى جنب مع وضع خطة حقيقية لإبداع وتدوين وتوظيف المفاهيم والمصطلحات العلمية والرياضية والفكرية والأدبية لصالح هذه اللغة، ومن دون هذا ستبقى الأمازيغية مجرد ظاهرة “فونية” عاجزة عن تمثل واستيعاب الفكر والعلم والتقنيات، وبذلك تضمر وتبقى مجرد لغة التخاطب الشفوي الذي يسلبها ميزة اللغة الواصفة.

وفي هذا الخصوص يلاحظ أن المناقشات التي تدور بين أوساط دارسي اللغة الأمازيغية، وبعض الكتاب من بينهم رجال المسرح وكتاب الأغنية، والناشطون اللغويون ومسؤولو المحافظة السامية للغة الأمازيغية حول الترجمة من وإلى هذه اللغة تتميز بالسطحية وذلك لأنهم يتحدثون فقط عن ترجمة النصوص القصصية والروائية والمسرحية والشعرية، علما أن هذا النوع من الترجمة أساسي وضروري رغم بعض السلبيات التي تتخلل عملية الترجمة مثل إخضاع اختيار النصوص للعلاقات الشخصية وللأهواء السياسية، الشيء الذي يظهر باستمرار في النزعة الانتقائية الطاغية، وفي أسلوب الدوران في فلك جزء ضئيل من الإنتاج الأدبي الجزائري المحلي فقط.

إن المطلوب هو وضع اللغة الأمازيغية على محكّ ترجمة تراث ومستجدات الإنتاج الفلسفي والفكري والنقدي والعلمي والتقني العالمي لتطويرها إلى لغة واصفة ولجعلها لغة المفاهيم والمصطلحات التي من دون إبداعها ونحتها، فإنها ستبقى ظاهرة فولكلورية ولن تحقق الانتقال بها إلى مرحلة الأداء الحضاري المنشود.