أزراج عمر يكتب:
المشاريع الفكرية العربية نزعة فردية متأثرة بالغرب
تميزت العقود الأربعة الأخيرة من حياتنا الفكرية والثقافية بظهور عدة مشاريع فكرية وإبداعية ونقدية أنجزها المفكرون والأدباء والنقاد ببلداننا، ولكنها بقيت جهودا فردية ولم تصبح قضية جماعية على مستوى المجتمع المدني أو على مستوى النخب السياسية، وأعني بذلك أن هذه المشاريع لم تجد خلايا التفكير التي تطورها فضلا عن عدم وجود أي اهتمام مادي ومعنوي من قبل مؤسسات الدولة مثل وزارات الثقافة والتعليم العالي التي تناط بها مهمة الإشراف على الفكر ومختلف أشكال التعبير الثقافي.
وفي الحقيقة فإن مصطلح المشروع الفكري أو الثقافي يحتاج إلى التحديد ولا يعني أن كل من ألف الكتب في هذا المجال أو ذاك هو صاحب مشروع.
وفي هذا الخصوص فإن طه حسين يعتبر صاحب مشروع ويتمثل جوهره في إدخال منهج الشك الديكارتي إلى مسرح نقد الأدب والفكر والثقافة والدين في مصر والعالم العربي معا، ويلاحظ أن طه حسين لم يقم فقط بشرح هذا المنهج والتعريف به أو بتناوله بالنقد والتحليل في هذا المقال أو ذاك الكتاب وكفى، بل إنه قد تحول عنده إلى ناظم محوري لكل كتاباته حيث قام بتوظيفه طوال مساره النقدي وطبقه على شتى الظواهر الثقافية والفكرية بما في ذلك حقل التعليم.
وفي هذا السياق بالذات وعلى أساس هذا التحديد لماهية المشروع النقدي الفكري الذي يمكن لنا أن نجده في التركيز على تحليل ونقد خطاب الاستغراب عند حسن حنفي، وفي تفكيك ثنائية الثابت والمتحول المتضادة لدى أدونيس، وفي سبر محمد أركون لتشابك العقلاني والأسطوري في التراث الديني الإسلامي واستمرار تفريخ هذين البعدين في مجتمعاتنا راهنا، وفي تحليل البنيات المكونة للعقل العربي في مؤلفات محمد عابد الجابري، وفي دراسة مطاع صفدي لتناقضات العقل الفلسفي الغربي وخاصة المعاصر ولموقفنا منه، وكذلك في تفكيك محمد جابر الأنصاري لظاهرة التوفيقية التي تميز الفكر العربي كنهج يحاول التقريب بين القوة الأصولية والقوة التحديثية، فضلا عن تحليلاته المهمة للمجتمعات الآسيوية ولعلاقتنا غير الصحية بها.
ويمكن لنا أيضا أن نتبين خصائص المشروع الفكري النقدي لدى جورج طرابيشي الذي ما فتئ يدمج منهج التحليل النفسي والمنهج الماركسي في دراساته التطبيقية للإبداع الروائي ولأزمات الفكر العربي، فضلا عن تشريحه لظاهرة العقل المستقيل عندنا. أما مشروع حسين مروة فيمكن تلخيصه في كونه يشغل المادية والديالكتيك الماركسي للكشف عن النزعات المادية في متن التراث الفلسفي العربي الإسلامي، أما مشروع زكي نجيب محمود فينصب على تحليل مشكلات العقل العربي كما تتجلى في التراث القديم وفي الثقافة العربية المعاصرة السائدة وفي المقدمة مشكلة اللامعقول في هذا التراث فضلا عن مشكلتي ثنائية الأرض والسماء في الفكر وفي الممارسة عندنا، واقتصار اهتمام الإنسان العربي على الأشياء المنفردة وليس على العلاقات التي تربط بينها وتلعب دورا فعالا في نشأتها وفي نموها وتطورها.
وفي هذا السياق بالذات يلفت انتباهنا مشروع عبدالرحمن بدوي والجهود التي بذلها من أجل فهم الوجودية وتأصيلها في البئية الفكرية والثقافية بمجتمعاتنا، ويمكن القول إن المغامرة الفلسفية لعبدالرحمن بدوي تقوم على دراسة البعد الثقافي العربي الذاتي وعلى ترجمة وتحليل بعد الفكر الغربي، ولا شك أن جهوده قد توجت بإضافة مقولتين اثنتين إلى مقولات كل من أرسطو وإمانويل كانط، ومما يؤسف له أن هذه الإضافة المهمة للمفكر بدوي وغيرها لم تبرز في النقد الفلسفي العربي ولم تشهد توظيفا لها في الدراسات الفلسفية والنقدية الثقافية.
هناك أيضا مشروع مهم يشترك فيه عدد قليل من المنخرطين في النقد الثقافي ببلداننا منهم الناقد عبدالله الغذامي علما أن النقد الثقافي يختلف عن تحليلات الدارس الثقافي التقليدي، وفي هذا السياق بالذات يمكن أن يشير المرء إلى مشروعي كل من طيب تيزيني وسمير أمين باعتبارهما يندرجان ضمن فضاء النقد الثقافي . من الواضح أن مشروع طيب تيزيني ينصب غالبا على قضيتي نقد التراث العربي وعلى البحث عن السبل التي يمكن أن تؤدي إلى الثورة الثقافية في بلداننا ، أما مشروع سمير أمين فيتأسس على بعدين أساسيين مترابطين في إنتاجه الفكري النقدي وهما نقد الرأسمالية العالمية المستغلة ورأسمالية دول الأطراف التابعة، وعلى فكرة “فك الارتباط ” مع أسلوب الإنتاج الرأسمالي والكولونيالية في آن واحد.
إن هذه المشاريع المتنوعة، والمشار إليها آنفا بإيجاز، تتأسس من حيث المقاصد على جذر مشترك وهو التأكيد أن الفكر النقدي هو القادر على إخراج مجتمعاتنا من تخلفها البنيوي بما في ذلك تخلف الفكر والثقافة ببلداننا. ويلاحظ أيضا أن أصحاب هذه المشاريع يستعيرون النظريات والمناهج من الفكر الأوروبي/ الغربي حيث لا يوجد عند معظمهم ابتكار للمفاهيم والنظريات والمنهج، وهكذا نجد بدوي، مثلا، مشدودا إلى المنظور الفلسفي الوجودي الأوروبي، ونرى الغذامي يستعير الجهاز النظري للنقد الثقافي لدى مثقفي نيويورك ومركز برمينغهام ومدرسة فرانكفورت، أما زكي نجيب محمود فيتمسك بالمنهج الفلسفي الوضعي المنطقي من خلال تمثله لمكاسب فلسفة التحليل ببريطانيا بشكل خاص، في حين نجد طرابيشي يشغل الجهاز النظري للتحليل النفسي الفرويدي المطعم بالتبصيرات النظرية الماركسية أثناء تنفيذه لنقده للثقافة العربية.
وهنا نتساءل: لماذا بقيت هذه المشاريع محصورة في نطاق الجهود الفردية لأصحابها ولم تفرز بلداننا خلايا أو متحدات التفكير الجماعي على مستوى مراكز البحث والمجتمع المدني، وعلى المستوى الرسمي لإغناء وتطوير هذه المشاريع والمضي بها قدما لتحرير العقل والعقيدة والسلوك في مجتمعاتنا؟