د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
مأساة مواطن بلا وطن !!
في أحدى رحلاتي إلى الهند قابلت شابا عدنيا واسع العلم والثقافة والمعرفة ويتكلم ثلاث لغات بالإضافة إلى العربية وهي : الانجليزية والفرنسية والألمانية .
قابلته في أحد الفنادق في مدينة (جوا ) في فصل الخريف وفي هذا الفصل بالذات تكون أسعار الفنادق منخفضة أكثر من النصف ..وتبدأ في الارتفاع التدريجي فتبلغ الذروة في الشتاء لتوافد السياح من أوربا وأمريكا وروسيا لاعتدال الطقس في هذه المدينة الجميلة ...قابلته في بهو الفندق شاب في الخامسة والعشرين عربي الملامح وتعارفنا بالصدفة البحتة ..دعوته لشرب القهوة معي وجلسنا معا وكان حديثه ذو شجون وكلما تذكر جزءا من قصته يحبس الدمع في عينيه و يتمالك نفسه وقال :أنا عدني من أم هندية تزوجها أبي عندما ترك الريف واستقر في عدن ..وكافح في حياته وكان يدرس ويعمل في الوقت نفسه حتى أكمل الثانوية ..كان يتقن اللغة الانجليزية ويتكلمها بطلاقة ..توظف في مصافي عدن وكان سريع الفهم ويمتلك كاريزميا جذابة وشخصية قيادية مؤثرة في محيط عمله .
وفي الستينيات من القرن الماضي انتخبه العمال في مركز قيادي حساس يمثل مطالبهم ..وفي ذروة النشاط السياسي للأحزاب في عدن حاول الجميع استمالته ليلتحق معهم ولكنه أبى ..وأمام إلحاحهم ورفضه قرروا التخلص منه .. واغتالوه في ليلة باردة مظلمة وهو عائد إلى المنزل ..وهنا بدأت مأساتي أنا وأمي ، واضطربت الأوضاع الأمنية في عدن ..وقرر الإنجليز الرحيل عنها وتواصلت أمي مع بعض الأسر الهندية في عدن الذين قرروا الرحيل إلى الهند وبدءوا في تصفية ممتلكاتهم !!
طلبوا منا تجهيز وثائق السفر ..وقد كانت أمي من مواليد عدن ولديها شهادة ميلاد عدنية وجوازا انجليزيا وكذلك أنا ومع ذلك ابتزنا السماسرة للسفر والخروج من عدن فباعت أمي مصاغها لتغطية نفقات الرحلة وللسماسرة .. وبالكاد دفعنا أجور السفينة التي أبحرت بنا إلى مومباي !!
وعند وصولنا نزلنا في ضيافة جدي لأمي وقد كان ميسور الحال يملك تجارة لا بأس بها وعمارتين ..ونزلنا في واحدة منها ..وقام على الفور وبذل مالا كثيرا لاستخراج وثائق الجنسية الهندية لي أنا وأمي وتمكن من استخراجها لأمي وفشل معي لرفض إدارة الجنسية ذلك ، وهنا بدأت معاناتي ولكن جدي ألحقني بأفضل المدارس الخاصة في مومباي حتى تجاوزت المرحلة المتوسطة ومات جدي الطيب وخالي ابنه الكبير في حادث سير واستولى أبنه الصغير الطائش على كل أملاك جدي .. وكان سيئ الطباع والأخلاق نزق سكير ضيق النفس فضاع وضيعنا وطردنا شر طردة وفي خلال سنتين ضيع كل ثروة جدي !!
وانتقلت مع أمي إلى (جوا) وهي مدينة سياحية شهيرة فعملت أمي في أحد فنادقها وتركت الدراسة لعدم مقدرتنا على دفع الرسوم وكنت أذهب أحيانا مع أمي وكلفني صاحب الفندق كعامل مساعد في الحديقة لري الأزهار والنباتات .
وذات يوم رآني أحد السياح الإنجليز وزوجته فوقف الرجل يسألني ثم سأل عن أمي وقال لها : سأتبنى هذا الغلام ؟!! ولكن أمي رفضت بشدة ..ثم عاد يكلمها في اليوم الثاني وقال لها : ليس عندي أولاد ولم تنجب زوجتي .. وأنا على استعداد أن أتبنى الصبي وسأعلمه وسأدفع لك شهريا مائة جنيه وسيزورك كل عام في الصيف وسيظل أبنك وأمام الحاجة وافقت أأمي ووقعا الأوراق اللازمة لذلك ،وبالفعل سافرت إلى انجلترا واستخرجا لي جوازا بريطانيا بناء على جوازي الأول وتبنياني رسميا والتحقت بالدراسة حتى تخرجت من جامعة لندن في الاقتصاد وبعد خمس سنوات توفى الرجل الذي تبناني ولحقته زوجته بعد ثلاثة أشهر ..وورثت عنهما منزلا ريفيا جميلا في مدينة (بورمث ) !!
وأثناء زياراتي للهند كونت علاقات جيدة مع رجال أعمال هنود وهاأنا الآن أدير هذا الفندق الضخم ، خلال هذه السنين حاولت التواصل والبحث عن أهل أأبي في الجنوب حتى أبلغني أحدهم أن جدي لأبي قد قضى مع ثلاثة من أولاده في عدة حروب ولم يبق إلا جدتي لأبي وهي أمرآة طاعنة في السن فاقدة للذاكرة ومصابة بالزهايمر ..ورغم ذلك كله لا زلت أحن إلى عدن مهد طفولتي وأتمنى أن أزورها ولكنهم أبلغوني أن الأوضاع الأمنية فيها غير مستقرة ..وهكذا أصبحت مشتت الذهن وبوصلة الاتجاهات مشوشة عندي ولم أعد أدري أين أسير وتشدني البوصلة إلى ثلاثة اتجاهات : عدن والهند وبريطانيا ولا أدري أيهما أختار والأولوية لعدن مسقط رأسي فهل سأرى ذلك اليوم ؟؟!!
قلت له : يا صديقي تشرفت بمعرفتك ولست وحدك من تشرد من وطنه ..أصبحنا ألوفا مؤلفة تشتتنا في الغربة والمنافي وطيور النورس أفضل حالا منا وأصبحت الأرض على سعتها لا تتسع لنا وأصبحنا نحمل صفة مواطن بلا وطن .
وينطبق علينا قول الشاعر نزار قباني :
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق ..وموتى دونما كفن
د. علوي عمر بن فريد