بهاء العوام يكتب:

بريطانيا.. الإرهاب المسجون

خلال شهرين، شهدت لندن عمليتين إرهابيتين نفذهما سجينان إرهابيان أطلق سراحهما قبل انقضاء عقوبتهما، بموجب قانون الإفراج المبكر الذي أقرته حكومة عمالية مطلع الألفية الجديدة. عبر هذا القانون أطلق سراح سبعين سجينا خطيرا، ونجح اثنان منهما بمغافلة المراقبة الأمنية وقتل وجرح مدنيين أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل بكل ما جرى مع الإرهابيين في السجون وخارجها.

مئتان وأربعون إرهابيا مسجونا ينتظرون أن يشملهم الإفراج المبكر هذا، إضافة إلى السبعين الذين يخضعون لمراقبة باتت مكثفة جدا بعد الحادثتين اللتين نفذتا بذات الطريقة. الإرهابي يطعن مارة بسكين وهو يلف نفسه بحزام ناسف مزيف، يضطر رجال الشرطة إلى قتله خوفاً من تفجير نفسه. بالإضافة إلى قاسم مشترك آخر بين الهجومين، وهو تبنيهما من قبل داعش فور إعلان الشرطة عن الفاعل.

دفعت الحادثتان بالحكومة البريطانية، برئاسة بوريس جونسون، إلى وضع قانون جديد لمكافحة الإرهاب يلغي الإفراج المبكر عن السجناء الإرهابيين قبل انقضاء ثلثي المدة، وبشروط يحددها مجلس متخصص في هذا الشأن. كما يشترط القانون أن يمضي الأشخاص المدانون بارتكاب جرائم خطيرة، مثل الإعداد لأعمال إرهابية أو قيادة منظمة إرهابية، مدة عقوبة لا تقل عن أربعة عشر عاما في السجن.

القانون الجديد ينتظر فقط موافقة البرلمان، ولا يتوقع رفضه لسببين، أولا لأنه يجد قبولا شعبيا كبيرا لدى البريطانيين، والثاني لأن الحزب الحاكم يمتلك أكثرية نيابية كافية في مجلس العموم لتمريره. يمكن أن يصبح القانون نافذا في بضعة أسابيع، ولعله يمنع الإفراج المبكر عن أشخاص يستعدون لعمليات إرهابية مشابهة.

بعيدا عن المنع كفعل يندرج في إطار الوقاية خير من العلاج، يبدو أن القوانين الجديدة لمعاقبة السجناء الإرهابيين لا تؤمن كثيرا بفكرة التوبة أو الإصلاح. يبدو أنها تؤمن فقط بأن الإرهاب داء لا دواء له، ولا يُشفى منه الإنسان مع مرور الوقت أو عبر برامج إعادة التأهيل. لوجهة النظر هذه ما يبررها، وقد عاد منفذا العمليتين الإرهابيتين الأخيرتين إلى ممارسة الإرهاب بعد أشهر من إطلاق سراحهما المبكر، والمشروط بالخوض في برنامج إعادة تأهيل للاندماج في الحياة العامة مجددا.

الإرهابي عثمان خان، الذي نفذ عمليته قرب جسر لندن، في شهر نوفمبر الماضي استهدف المشرفين عليه في برنامج إعادة التأهيل. أما سوديش أمان، الذي أفرج عنه الشهر الماضي، فهو لم يحتمل فكرة الحرية لمدة أسبوع واحد فقط، ونفذ عمليته الإرهابية سعيا وراء “الشهادة” كبوابة للجنة. وقبل أن يخوض في رحلته بعث إلى إخوته رسائل يدعوهم فيها إلى ذات الجهاد وذات الجنة المأمولة.

لا أدري كيف يمكن أن تقنع الإرهابيين بأن هذا الفهم للجنة خاطئ ويسيء للإسلام. ربما يكون هذا السبيل الوحيد لمعالجة الإرهاب إن كان مشكلة مكتسبة ولا تتعلق بالجينات كما يعتقد البعض في لندن. لا نتحدث هنا عن اعتقاد أفراد عاديين وإنما مختصين يديرون برامج لمكافحة التطرف في البلاد. هم يقولون إن الإرهاب مرض عضال لا يمكن الشفاء منه. ويؤكدون أن الأطباء النفسيين يحتاجون إلى العشرات من الجلسات مع الإرهابيين كي يفهموا آلية تفكيرهم ومدى تمسكهم بالتطرف.

ما يعزز هذا الاعتقاد هو وجود هؤلاء الذين يتطرفون لوحدهم كما يصفهم الإعلام المحلي. من وجهة نظر أمنية هم أكثر خطرا من الذين يأتمرون بأوامر داعش أو غيره من المنظمات الإرهابية. ليس لشيء وإنما لأنه تصعب متابعتهم أو توقع سلوكهم. هم يبحثون بمفردهم عن الأفكار المتطرفة في كل مكان. وعندما تتبلور هذه الأفكار في رؤوسهم يخرجون إلى العالم بعمليات إجرامية مفاجئة. ووفقا لمختصين نفسيين كلما عانى هؤلاء من مشاكل ذهنية كلما زادت قابليتهم للتطرف والإرهاب.

يبدو الأمر معقدا، وقد أدركت بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية حجم تعقيده، منذ أن بدأ المئات من الشباب والمراهقين المسلمين في هذه الدول بالذهاب إلى الدولة المزعومة لداعش. ولدوا وترعرعوا وسط ثقافة منفتحة وتعلموا في المدارس الغربية. وعندما ظهر أبوبكر البغدادي على منبر جامع النوري في مدينة الموصل العراقية، شدوا الرحال إلى “دولة الخلافة الإسلامية” التي يمر منها الطريق إلى الجنة.

هذا التعقيد من أبرز الأسباب التي تجعل الدول الغربية ترفض عودة دواعشها الأسرى في سوريا والعراق وتركيا. لا ضمانات بأن يعود أولئك إلى رشدهم، ويتراجعوا عن إرهابهم. إن كان الذين يعتقلون في السجون الأوروبية ينتظرون بفارغ الصبر حتى تحين ساعة الإفراج عنهم كي ينفذوا عمليات إرهابية يذهبون عبرها إلى الجنة، فما الذي يمنع المحررين من سجون تلك الدول من تنفيذ مثل هذه العمليات.

لا شك أن الحادثتين الأخيرتين في لندن فجرتا عصاب الخوف من الإرهاب القابع في السجون البريطانية. ربما تبدد العقوبات الصارمة في قانون مكافحة الإرهاب الجديد، خطر الإرهابيين المعتقلين. ولكنها لن تردع من يتبنون التطرف طوعا وبملء إرادتهم. هؤلاء يؤمنون بأن الطريق إلى الموت هو “الطريق إلى الجنة” وهو أقصر بكثير من الرحلة إلى السجن، لذلك يواجهون رجال الشرطة بما يدفعهم لقتلهم فوراً ودون تردد.

بالنسبة إلى الحالمين بالجنة عبر دماء “الكفار” لا يحتاج الأمر إلا لسكين وحزام ناسف مزيف. بضع دقائق وتصبح بين “الحوريات والأماكن الخلابة”. الوصفة بسيطة جدا وطالما أن هناك من يؤمن بها فلن ينتهي مسلسل الإرهاب حول العالم. لا تعرف الحكومة البريطانية من يستطيع إبطال مفعول هذه الوصفة، لذلك قررت استخدام وصفة مضادة بسيطة هي الأخرى. إن لم تفلح بالذهاب إلى الجنة على أيدي الشرطة فستعيش في السجن متحسراً على الحياة الدنيا لعقود طويلة أو إلى الأبد.