بهاء العوام يكتب:

محاولة أوروبية للتمرد على هيمنة واشنطن

يدرك الأوروبيون جيداً خطر المواجهة العسكرية بين الأتراك والروس في الشمال السوري على قارتهم العجوز. لكن ذلك ليس هو الدافع الوحيد لوساطتهم بين الطرفين من أجل تسوية الخلاف حول مدينة إدلب. هناك دافع آخر يرتبط بمراجعة داخلية لدور الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط والسياسة الدولية عموماً، استدعتها السياسة الأميركية التي مارست تغييباً واضحا للتكتل في ملفات عدة منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قبل نحو أربع سنوات.

تعرض الأوروبيون، أقرب حلفاء الولايات المتحدة، إلى حرج كبير بسبب القطبية الأميركية التي همشتهم في كثير من القرارات التي اتخذها ترامب منذ قدومه إلى السلطة، بدءاً من انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، ثم انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، مروراً بحربه الاقتصادية على الصين وضغطه على دول حلف الناتو من أجل رفع مساهمتها في ميزانية الحلف، وبعدها تقاربه الانتهازي مع تركيا في سوريا، وصولاً إلى إعلان خطة ترامب للسلام في منطقة الشرق الأوسط.

خلال السنوات القليلة الماضية، مارس الاتحاد الأوروبي تعقلاً كبيراً في التعامل مع السياسة الخارجية الأميركية. ليس طوعاً وإنما إكراهاً بسبب تضعضع البيت الداخلي للاتحاد وانقسام دوله حول الكثير من الملفات والأزمات الدولية.

أما اليوم فيبدو أن التكتل المكون من 27 دولة بعد خروج بريطانيا، يحاول عبر قيادتيه الفرنسية والألمانية خوض مواجهة غير مباشرة مع واشنطن.

بدأ يجرب عرقلة مشاريع الولايات المتحدة في المنطقة العربية، وفي الوقت ذاته يحاول تنفيذ أجندة وخطط أوروبية في المنطقة دون طلب دعم ومساعدة من واشنطن.

المحاولة الأوروبية ترجمت في بعض الخطوات الأخيرة التي صدرت عن بروكسل، مثل رفض صفقة القرن وإقرار البعثة الأوروبية لحظر توريد السلاح إلى ليبيا، ورفض تدخل حلف شمال الأطلسي في الحرب التركية الروسية المحتملة شمال سوريا، إضافة إلى تخلي برلين وباريس عن العداء الدائم لموسكو وصياغتهما لقائمة جديدة من خصوم الاتحاد الأوروبي، يتصدرها النظام التركي بسبب الابتزاز الذي مارسه ويمارسه رجب طيب أردوغان بحق دول الاتحاد.

ما يثير حفيظة الأوروبيين في السلوك الأميركي شمال غرب سوريا، هو أن واشنطن تمارس بعض الألاعيب لتدفع بأردوغان نحو المواجهة مع روسيا فتضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل. الأول هو إحلال القطيعة بين الروس والأتراك، والثاني هو التمهيد لإشراك حلف الناتو في الحرب السورية ضد حلفاء حكومة دمشق الإيرانيين والروس. الهدفان يضران بالمصالح الأوروبية ولا تريد بروكسل أن يتحقق أي منهما. لكن ذلك يتطلب نزع فتيل التوتر بين أنقرة وموسكو.

المأزق الذي يعيشه الجميع اليوم في شمال غرب سوريا، هو أن أردوغان صعد كثيرا في تهديداته وبالغ في مطالبه، حتى أثار نقمة الروس ووضع عناد الرئيس فلاديمير بوتين على المحك. ومع مراوحة المفاوضات الروسية التركية مكانها، واقتراب المهلة الممنوحة من أردوغان للجيش السوري للتراجع إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية في إدلب، يزداد احتمال المواجهة بين موسكو وأنقرة، وخاصة إذا ما تسلمت تركيا بطاريات باتريوت الأميركية التي ستتيح لها استخدام المجال الجوي السوري في الحرب المحتملة.

يستشعر أردوغان الرغبة الأميركية بدعمه ضد الروس، لكنه يخشى غدر البيت الأبيض في منتصف الطريق. لذلك يفضل خيار المؤازرة الرسمية من حلف الناتو لتحميه من البر والجو والبحر. لكن هذه المؤازرة لن تأتي إلا في حالتين، الأولى موافقة الأوربيين واتفاقهم مع الأميركيين على مساعدة الأتراك. والثانية أن يجعل أردوغان من الحرب في سوريا بمثابة اعتداء مباشر على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، وبالتالي يجب على الدول الأعضاء تقديم العون لها لصد العدوان عليها.

يفضل ترامب أيضاً أن يتكفل الناتو بحروبه في الشرق الأوسط والمنطقة العربية. فهو بذلك يحتفظ بقيادة بلاده لهذه الحروب، وفي الوقت ذاته يتقاسم تكاليفها المادية والعسكرية والبشرية مع دول الحلف. مثل هذا السيناريو يتيح لترامب حماية شعبيته التي يحتاجها في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالحروب تحت غطاء الناتو لا تثير ضده نقمة داخلية. كما أنها تنعش سوق السلاح الأميركي لأن كل من ينخرط فيها أو يستفيد منها حول العالم، لا بد له أن يتبضع من المصانع العسكرية الأميركية ويبرم صفقات التسليح السرية والمعلنة مع ترامب.

يقرأ الأوربيون بين سطور ما يدور في الغرف المغلقة في أنقرة وواشنطن، ويحاولون إبقاء حلف شمال الأطلسي بعيداً عن متناول الانتهازية الترامبية والابتزاز الأردوغاني. لقد اختبر الأوروبيون حروب الناتو وعرفوا أنها لا تأتي دائماً بالنتائج المرجوة. فالدول التي تدخل فيها الحلف منذ بداية الألفية الثالثة لم تنعم يوماً بالسلام ولا تتمتع باستقرار سياسي. تجريب المجرب هو كل ما تحاول بروكسل تجنبه في سوريا، أما خارجها فهي تحاول فرض نفسها كقطب عالمي وليس تابعا للولايات المتحدة