أزراج عمر يكتب:

النقد الأدبي الجزائري معزول عن محيطه الأفريقي والعالمي

رغم أن الجزائر استقبلت مطلع القرن العشرين العديد من الكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين والمفكرين، فإنها لم تحافظ على زادها الثقافي الذي خلّفه هؤلاء، إذ تراجع المشهد الثقافي الجزائري بعد الاستقلال بشكل كبير، ولم يستفد الجزائريون مما سبق ولم يطوروا من ساحتهم الثقافية التي باتت تنعزل يوما فآخر، فما هو السبب وما هي الحلول.  

أسئلة كثيرة يثيرها المشهد الثقافي في الجزائر من بينها لماذا لم تنتج الجزائر مدارس ونظريات ومفاهيم نقدية أدبية على مدى 57 سنة من الاستقلال؟ وكيف نفسر غياب الصحافة الأدبية المتخصصة والتي يشرف عليها أدباء ونقاد أكفاء، كما كان الأمر نسبيا في بدايات الاستقلال حتى نهاية فترة ثمانيات القرن الماضي، علما أن تعداد الصحف اليومية والأسبوعية الصادرة الآن في البلاد هي أكثر بكثير من عدد الصحف والمجلات التي كانت تصدر قبل عشرين سنة؟

كما نتساءل إزاء هذا المشهد لماذا لم ينجح النقد الأدبي الأكاديمي الذي ينتج راهنا في الجامعات الجزائرية أن يبتعد عن اجترار النظريات والمقاربات المستوردة التي تفرض غالبا على النصوص الأدبية الجزائرية وجراء ذلك أصبح معظم قاموس النقد الأدبي الجامعي عبارة عن جداول رياضية صماء؟

الأزمة وأسبابها

بطبيعة الحال إن العوامل المذكورة سلفا ليست وحدها السبب المركَب والجوهري الذي يعرقل تطور النقد الأدبي في الجزائر، بل هناك أسباب أخرى حالت ولا تزال تحول دون تأسيس تقاليد النقد الأدبي الجزائري المتميز أسوة بجهود جيراننا الأفارقة الذين طوروا ويوصلون تطوير نقدهم الأدبي بواسطة انتهاج مسارين وهما تجنب اجترار المصطلحات والمفاهيم والمقاربات الأوروبية/ الغربية، واستلهام مرجعيات الأبعاد الفلسفية والصفات الحضارية الأفريقية التي يفترض أن الجزائر تشترك فيها ولكن هذه الشراكة لم تستثمر وتفعل حتى يومنا هذا.

في هذا السياق من يمكن القول إن تطوير النقد الأدبي مشروط بتفعيل الرأسمال الوطني وبتقدم المجتمع وأساليب إنتاجه وعيشه ومناهج تفكيره. وعلى هذا الأساس فإن النقد الأدبي هو جزء من الوضع العام ولا يمكن النظر إليه كحالة استثنائية أو كجزيرة معزولة، ولاشك أن تخلف البنية الثقافية في أي بلد من البلدان يؤثر بقوة في إضعاف النقد الأدبي الذي ينبغي أن يتأسس على تقدم الفكر والعلم وعلى مختلف أشكال التطور المادي والاجتماعي.

النقد الأدبي هو جزء من الوضع العام وتطويره مشروط بتفعيل الرأسمال الوطني وتقدم المجتمع وأساليب إنتاجه

وقد لوحظ أن الوضع الجزائري المتهافت هو الذي يطبع ويفرز راهنا، وعلى نحو سلبي، بانوراما الحياة الثقافية الوطنية الجامدة والمتخلفة بما في ذلك النقد الأدبي. إنه رغم تعميم التعليم ومحو بعض الأمية الحرفية جزئيا، ولا نقول الأميَات الفكرية والجمالية.

ورغم تزايد طلاب شعب الأدب والنقد الثقافي والدراسات المسرحية في الجامعات الجزائرية التي تقدر بخمسين جامعة ومركز جامعي، فضلا عن المدارس العاليا، فإن مكوَنات البنية الثقافية الجزائرية وفي صميمها النقد الأدبي الذي يفلسف ويعيد بناء عوالم الإنتاج الأدبي الإبداعي ويخلق الذوق الجمالي في المجتمع وينشئ القراء والمقروئية الذي لا تزال تخطو خطوة إلى الأمام حينا وخطوتين إلى الوراء أحيانا أخرى على نحو أشبه بحال الرقصة الأسبانية.

من الملفت للنظر أن النقد الأدبي في المشهد الثقافي الجزائري كان في بدايات الاستقلال والسنوات التالية أكثر حيوية رغم دورانه في إطار البؤر النظرية التقليدية ونعني بهذه الحيوية نشاط النقاد الجزائريين التقليديين الذي تميزوا بالمتابعة المتواصلة عرضا وتقديما وتحليلا للإنتاج الأدبي الصادر حينذاك إيمانا منهم أن تلك المهمة لا تختزل فقط في ممارسة سبر وتقييم وتقويم النصوص الإبداعية بل فإنها تدخل في تقديرهم في صميم الالتزام الوطني ببناء الهوية الأدبية الجزائرية وتنمية الشخصية الثقافية الوطنية، وبذلك صار النقد الأدبي للإنتاج الإبداعي رديفا لمقاومة الجهل وفعلا ثقافيا وطنيا على طريق تجاوز مخلفات الحقبة الاستعمارية التي خلخلت وأخرت مختلف أشكال التعبير الثقافي والفني الوطني.

انتعاشة سابقة

تطوير النقد الأدبي مشروط بتفعيل الرأسمال الوطني (لوحة محمد الرواس)

في ذلك المناخ فقد اعتبر النقد الأدبي شكلا من أشكال الالتزام الثقافي والروحي بغض النظر عن المواقف والمقاربات التقليدية التي كانت تميز أغلب نقاد تلك المرحلة.

أما بخصوص المؤثرات الأخرى التي ساهمت في توليد وتفعيل النقد الأدبي ذي الطابع الصحافي أو الجامعي الجزائري فينبغي التوقف بسرعة عند مساهمات عدد من الأدباء والنقاد الذين اتخذوا الجزائر مسكنا لهم وموقعا لتجاربهم الأدبية.

وتكمن أهمية هؤلاء من التفاعل بصدق مع المواهب الأدبية الجزائرية بواسطة حضور ندواتهم ومنقشة نصوصهم الإبداعية وأفكارهم ذات الصلة بآليات الكتابة.

وهكذا يمكن للمؤرخ الأدبي لهذا التفاعل المذكور أن يذكر عددا من الأدباء المشارقة والمغاربة والتوانسة والفرنسيين الذين أقاموا بالجزائر كأساتذة أو متعاونين في مؤسسات أخرى مباشرة بعد الاستقلال وساهموا في تغذية الحركة الأدبية الجزائرية، منهم على سبيل المثال الشاعر التونسي منور صمادح، والشاعر السوري شوقي بغدادي، والشاعر العراقي سعدي يوسف والمسرحيون المصريون مثل ألفريد فرج وسعد أردش وكرم مطاوع، والروائي الفلسطيني أفنان القاسم والشاعر العراقي محمد البوسطاجي، والروائي السوري وحيدر حيدر، والشاعر المغربي محمد علي الهواري، والناقد السوري شكري فيصل، والروائي المصري يوسف أبو رية، والمترجم والدارس الأدبي الفرنسي جان ديجو، وغيرهم.

هناك معلم آخر لا يقل أهمية وهو زيارات الشعراء والنقاد للجزائر في أواخر ستينات وسبعينات القرن الماضي الذين أحيوا الأمسيات الشعرية وإلقاء المحاضرات في النقد الأدبي والفكري منهم نزار قباني ومحمود درويش، وعبدالوهاب البياتي، ومحمد مهدي الجواهري، ومحمود أمين العالم ويوسف إدريس، وسهيل إدريس، ويوسف السباعي، وحسن حنفي، وسليمان العيسى، وحسين مروة، وخلدون الشمعة وغيرهم كثير جدا.

في مثل ذلك المناخ الإيجابي تعددت الندوات في قاعات المقار، والأطلس، والمسرح الوطني، والنفق الجامعي، واتحاد الكتاب الجزائريين وغيرها وقد تميزت تلك الندوات المنتظمة والمشبعة بدفء المثاقفة بمناقشات جدية ذات طابع نقدي شارك فيها أدباء جيل حركة التحرر الوطني وجيل الاستقلال وكثيرا ما نقل النقاش في تلك القاعات إلى جريدة الشعب، ومجلات المجاهد الأسبوعي، والجيش، وآمال، والثقافة، والثقافة والثورة، والوحدة فضلا عن جريدتي الجمهورية بوهران والنصر بقسنطينة، وكان ذلك كله دافعا حيويا للحركة الأدبية بشكل عام وللمحاولات النقدية بشكل خاص وهو ما نفتقده الآن في جزائر القرن الواحد والعشرين مع الأسف.