أزراج عمر يكتب:

هل الشعر المغاربي أقل قيمة من نظيره المشرقي

مازالت الساحة الشعرية العربية تعاني من مركزية كبيرة، حيث هناك اهتمام إعلامي ونقدي كبير بما يكتب في المشرق، بينما تعاني تجارب هامة في المغرب العربي من الإهمال وعدم الاهتمام. هذه المركزية المشرقية التي تتعامل مع الشعراء المغاربيين وكأنهم أقل شأنا، ساهمت في تدهور الشعر العربي، وإصابته بالخلل.  

في هذا الأسبوع استضافتني إذاعة مونتي كارلو الفرنسية الناطقة باللغة العربية وشاركت في ندوتها حول ذكرى ميلاد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، حيث أتيحت لي الفرصة وتحدثت عن علاقتي الشخصية به وبشعره أيضا وبواقع الشعر الحر منذ فترة أواخر الستينات فصاعدا.

أعتقد أن الاحتفال بذكرى ميلاد الشعراء لفتة جميلة وهي في تقديري أفضل بكثير من استعادة ذكرى وفاتهم الحزينة التي عُوِّدنا عليها في مشهد الثقافة العربية الراهنة التي تهتم بالفقدان أكثر من اهتمامها بالوجود الحيوي الحاضر.

طمس المغاربيين

في سياق هذه الندوة خطر على بالي السؤال التالي: لماذا الاحتفال بميلاد درويش فقط، ولا يعمم هذا الاحتفال على غيره من الشعراء الناطقين بالعربية منهم على سبيل المثال فقط بدر شاكر السياب، وخليل حاوي، ومنور صمادح، ومفدي زكريا من الجيل القديم وبشعراء الجيلين الثاني والثالث وهلم جرا من المحيط إلى الخليج؟

في الحقيقة إن معظم الكتابات المؤرخة لحركة الشعر العربي المعاصر لا تلتزم بالتمثيل المتكافئ بين الدول التي تنعت بالمركزية والدول التي تحشر ضمن خانة بلدان الأطراف، وبهذا السلوك فإن قيمة الشعر الذي يحتفل به تقاس بانتمائه إلى دول المركز وبجماهيريته وارتباطه بقضية من القضايا وفي مقدمتها قضية التحرر الوطني في حين ينبغي أن يحتفى بالشعراء وشعرهم بسبب القيمة المضافة للإبداع الشعري بغض النظر عن أي شيء آخر. وفي الواقع إن أغلب الندوات التي تنعقد هنا وهناك لإحياء ذكرى هذا الشاعر أو ذاك تكرس لشعراء المشرق العربي أما شعراء المنطقة المغاربية فلا يلتفت إليهم الإخوة المشارقة، وكأنهم لم يقدموا أي إضافة للمدونة الشعرية العربية.

إحدى الأزمات الكبرى التي يعاني منها الشعر العربي المعاصر هي النسيان الدائم لمساهمات شعراء المنطقة المغاربية

ولا شك أن إحدى الأزمات الكبرى التي يعاني منها الشعر العربي المعاصر تتمثل في هذا النسيان الدائم لمساهمات شعراء المنطقة المغاربية الناطقين باللغة العربية، وبسبب ذلك فإن التاريخ الحالي المكتوب والخاص بالمدونة الشعرية العربية المعاصرة هو تاريخ مشرقي جزئي ويخص فقط مساهمات الشعراء المشارقة في الغالب.

والملفت للنظر هو أن هذا النمط من الاختزال الانتقائي لتاريخ ومكانة الشعرية العربية المعاصرة في التأريخ الأدبي يتزامن مع ثلاث ظواهر، تتلخص الأولى في إبعاد النماذج الجيدة من الشعر المغاربي المعاصر من الكتب المقررة في المناهج التعليمية بالمشرق العربي، علما أن أهم قصائد الشعراء المشارقة مقررة في الكتب المدرسية المغاربية، وجراء ذلك نجد الأجيال المغاربية تحفظ عن ظهر قلب أسماء وقصائد معظم شعراء العراق ومصر والشام بشكل خاص، الأمر الذي جعل ولا يزال يجعل شعر هؤلاء الشعراء جزءا عضويا من وجدانهم وثقافتهم الفنية.

أما الظاهرة الثانية فأكثر تعقيدا وهي أن معظم الكتب المؤرخة لتطورات الشعر العربي المعاصر الكلاسيكي أو التفعيلي أو الذي يعتمد قصيدة النثر، والتي أنجزها الدارسون والنقاد المشارقة لا نجد فيها مناقشة عابرة أو جادة مفصلة لشعر شعراء الفضاء المغاربي وشعرائه المعاصرين.

المركزية المشرقية


لنأخذ مثلا كتب الدكتور إحسان عباس، وأدونيس وعزالدين إسماعيل وغالي شكري، وجابر عصفور، كنماذج، لندرك أن وباء المركزية النقدية المشرقية حاضر بقوة وبإصرار نمطي حيث لعبت هذه المركزية المغلقة ولا تزال تلعب دورا محوريا في طمس جهود الشعراء المغاربيين المعاصرين وفي تشطير عناصر الإبداع الشعري الناطق بالعربية.

في كتابه “الشعر العربي الحديث إلى أين؟” حلل الدكتور غالي شكري مجموعة من مشكلات الشعر العربي المشرقي المعاصر، ولكنه لم يخصص ولو فصلا واحدا لمشكلات وقضايا قصيدة النثر للشعراء المغاربيين وللشعر التفعيلي المغاربي، أما كتابه “برج بابل: النقد والحداثة الشريدة” فقد ركز فيه بشكل خاص على الإنتاج النقدي والشعري المشرقي وخصص بعض الصفحات القليلة لأسماء شعرية مغاربية قليلة جدا، وحصر الأمر في تحليل الأجوبة التي تقدم بها الشعراء المغاربيون في القسم الذي خصصه الدكتور شكري لمفهوم الحداثة في الشعر.

أما كتاب الدكتور عزالدين إسماعيل الموسوم بـ“الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية” فلم يخرج بدوره من شرنقة المركزية المشرقية حيث أبعد هو أيضا الشعر المغاربي المعاصر بشكل تعسفي كلي من هذا الكتاب الذي يفترض عنوانه أنه مخصص لكل الشعر العربي المعاصر.

ونلاحظ نفس التمركز المصري والمشرقي معا لدى الناقد المصري جابر عصفور وبشكل مكشوف في كتابه “رؤى العالم: عن تأسيس الحداثة العربية في الشعر”.

في هذا الكتاب يغلَّب الدكتور جابر عصفور عناصر من المدونة الشعرية المصرية ولكنه يدرس أيضا شعراء مشرقيين آخرين مثل أدونيس ودرويش ويقصي كلية عدة نماذج طليعية من الشعر المغربي والتونسي والجزائري والليبي والموريتاني باللغة العربية من المساهمة في التأسيس للحداثية الشعرية باللغة العربية برمتها، أو في الإسهام في منح هذه الحداثية الشعرية نكهة خاصة مشتقة من تميز البعد الثقافي والنفسي للمنطقة المغاربية، وإن كان ذلك ضمن بعدين حضاريين وهما البعد العربي الإسلامي والبعد الأفريقي في اتصاله بحضارة البحر الأبيض المتوسط.


والجدير بالذكر هنا هو أن الدكتور عصفور لا يميز، مثل كثير من النقاد المشارقة المعاصرين، بين مفهوم الحداثة Modernity التي تعني باختصار شديد جدا، وذلك حسب تحديد المفكر البريطاني أنتوني غيدنز لهذا المفهوم في كتابه المهم “نتائج الحداثة” قائلا بأنه يعني “أشكال الحياة الاجتماعية أو التنظيم الذي ظهر في أوروبا حوالي القرن السابع عشر فصاعدا، والذي صار فيما بعد على نحو أقل أو أكثر عالميا في تأثيره، ويربط هذا الحداثة بالمرحلة الزمانية وبالموقع الجغرافي الأولي”.

ويعمق غيدنز تعريفه لمفهوم الحداثة مبرزا أن الحداثة متصلة ماديا بأبعادها المؤسساتية التي تتمثل بإيجاز في مؤسسات وممارسات “الرقابة الاجتماعية والتحكم في المعلومات، والرأسمالية والقوة العسكرية والتحكم في وسائل العنف، والتصنيع، أي تحويل الطبيعة، وبين مفهوم الحداثية  Modernism التي تعرّف في النقد الحديث بأنها الإنتاج الثقافي والفكري والفني، أو لنقل البنية الثقافية والأدبية والفكرية والفنية المعبرة عن البنية القاعدية للحداثة التي سبق لنا أن قدمنا تعريفا لها آنفا.

أما المركزية المشرقية عند أدونيس فتظهر جلية في إنتاجه النقدي الذي يتجاهل البعد الثقافي المغاربي وموقعه ضمن قطبي الثابت والمتحول اللذين درسهما في كتابه الذي خصصه للكشف عن ثنائية الاتباع والإبداع في الثقافة العربية بما في ذلك الشعر. كما تظهر مركزيته اللاغية للشعر المغاربي في “ديوان الشعر العربي” بأجزائه الأربعة، وفي كتبه النقدية الثلاثة وهي “مقدمة للشعر العربي” و“الشعرية العربية” و“سياسة الشعر: دراسات في الشعرية العربية المعاصرة”.