أزراج عمر يكتب:
مفكر تونسي يفكك اللاوعي الديني والثقافي
بات واضحا أن كتاب المحلل النفسي التونسي فتحي بن سلامة الموسوم بـ”التحليل النفسي وتحدي الإسلام” االذي ترجمه إلى اللغة الإنجليزية روبرت بونونو وصدر عن منشورات جامعة منيسوتا الأميركية، لا يزال يثير النقاش وبذلك اكتسب مكانة معتبرة في أوروبا وخاصة في بريطانيا.
وعن هذا الكتاب قال المفكر البريطاني المرموق جيفري بنينغتن “إنه كتاب لامع ويفتتح منظورات جديدة للفهم النفسي للدين”، ثم أضاف مبرزا أن “قراءة بن سلامة الصارمة للإسلاموية كعرض لأزمة الإسلام نفسه هي مثال جيد للتحليل النفسي التفكيكي في أفضل أحواله”.
وفي الأيام القليلة الماضية استرعت انتباهي دراسة مهمة حول كتاب فتحي سلامة المذكور آنفا وأنجزها الناقد والدارس التونسي نوري غانا، وقد تضمنها كتاب يحمل عنوان “بعد جاك لاكان”. وقد صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عن منشورات جامعة كامبريدج البريطانية بإشراف أنخي موكرجي الأستاذة بجامعة أكسفورد، وشارك فيه عدد من الدارسين والنقاد. إن أهم ما حفزني لاقتناء هذا الكتاب هو مساهمة نوري غانا الكيفية التي بموجبها تشغَل نظريات ومفاهيم مفتاحية لجاك لاكان في مجالات السينما، والسياسة، والدراسات العرقية، والميديا، والدراسات الخاصة بالمعطوبين، والإسلام.
فتحي بن سلامة في كتابه "التحليل النفسي وتحدي الإسلام" يستفيد من جاك لاكان ويثير جدلا فكريا كبيرا
قبل النظر بعجالة في القضية المحورية التي تركزت عليها مناقشة نوري غانا التحليلية النفسية من منظور المحلل النفسي جاك لاكان لكتاب “التحليل النفسي وتحدي الإسلام” لفتحي بن سلامة، ألا وهي مسألة الأصل أو الأصول والأصولية، أشرع مباشرة في القول إن انفتاح العالم العربي على كشوف التحليل النفسي لجاك لاكان وجهازه النظري وعلى كيف تعمل مفاهيمه الاستراتيجية، مثل الإقصاء والمتعة والخيالي والرمزي والواقعي والرغبة وغيرها في مجالات الثقافة والدين والأدب والفن وفي مختلف أشكال التعبير الرمزي، لا يزال نخبويا على نطاق ضيق جدا حتى الآن ويعود ذلك ربما إلى عدم ترجمة أبرز أعمال لاكان الكثيرة والمعقدة إلى اللغة العربية وجراء غموض أسلوبه ولغته الاصطلاحية.
وخلافا لهذا نجد جهود المحللين النفسيين المصري مصطفى صفوان، واللبناني الراحل عدنان حب الله في مجال استيعاب وهضم وتوظيف نظريات ومفاهيم لاكان في الطليعة، والسبب في ذلك يعود إلى كون الدكتور صفوان من تلاميذ لاكان كما يعد أيضا أحد أقطاب الفكر الفلسفي والتحليل النفسي في فرنسا والغرب بشكل عام.
رغم أهمية إنتاج كل من صفوان والراحل عدنان حب الله فإن تركيزي هنا هو حول حوار نوري غانا مع أطروحات كتاب “التحليل النفسي وتحدي الإسلام” لفتحي بن سلامة. وفي هذا الخصوص يكتفي نوري غانا منذ البداية بالتأكيد أن فتحي بن سلامة ليس المحلل النفسي الوحيد الذي تناول الإسلام من وجهة نظر تحليلية نفسية، ويضرب مثلا لدعم رأيه بقوله إن التاريخ يبيّن أن علاقة التحليل النفسي بالدين عامة وبالإسلام خاصة قوية وخاصة منذ فرويد.
وفي هذا الصدد ينبغي التذكير أيضا أن علاقة التحليل النفسي في طبعته الأوروبية لا تتوقف عند فرويد أيضا كما يرى الدارس نوري غانا بل فإن المحلل النفسي السويسري الشهير، وأحد معاصري ومساعدي فرويد، وهو كارل غوستاف يونغ قد كتب نصا مهما، ورسالة إلى زوجته “إمه” يتضمنان رأيه المعتدل في الإسلام وفي المجتمع التونسي المسلم، وقد حدث هذا بالضبط أثناء زيارته لتونس عبر الجزائر.
ففي تلك الرسالة التي وجهها إلى إمه من الفندق الكبير بمدينة سوسة في 15 مارس من تلك السنة قال يونغ “لا أدري ماذا تقوله لي أفريقيا حقا، ولكنها تتكلم. تخيلي شمسا رائعة، وهواء نقيا كما في الجبال العالية، وبحرا أزرق لم تري مثله أبدا، وكل الألوان ذات القوة التي لا تصدق. وفي الأسواق يمكنك أن تشتري جرَة من العصور القديمة – أشياء مثل هذه – والقمر”.
وفي نص هذه الرسالة لا نلمس أي موقف يعادي الثقافة الإسلامية، هذا ونجد يونغ في مقاله الانطباعي عن رحلته التونسية الذي تضمنته سيرته الذاتية “ذكريات، أحلام وتأملات” يتحدث عن صفاقس وصحراء واحة توزر ثم عن نفطة، وفي سياق حديثه وظف يونغ نظريته في اللاوعي الجمعي ناظرا إلى ذاته الأوروبية وأعلن أن الأوروبي لم يعد كما كان في العصور القديمة، وإنما بات يدرك وضعه في الحاضر حيث أنه فقد الجاذبية، الأمر الذي جعله يواجه وهم انتصاراته.
لاشك أن المهم هنا هو التركيز بعجالة على مناقشة نوري غانا لمعالم توظيف بن سلامة لنظريات جاك لاكان لتحليل نزعة النكوص إلى الأصل لدى الحركات الإسلاموية وليس الاستغراق في تقصي السجال حول تاريخ البدايات المبكرة لعلاقة التحليل النفسي الأوروبي بالإسلام. ويرى نوري غانا أن فتحي بن سلامة “يجنَد مفاهيم جاك لاكان مثل الرغبة، والنقص، والأخر/ الأنثى، والمتعة، من أجل تفكيك وإعادة بناء قضية ‘الأصل’ في الإسلام”، بسبب مركزية مثل هذه المسألة جزئيا بالنسبة للحركات الإسلامية المتنوعة وبسبب كونها جزئيا موضوع رواية ‘آيات شيطانية’ لسلمان رشدي المثيرة للجدل عام 1988، وكذلك موضوع كتاب ‘الليلة القلقة’ لبن سلامة، عام 1988”.
تكمن أهمية توظيف مفاهيم لاكان لتحليل ونقد النزعة الأصولية في كون التحليل النفسي اللاكاني يركز على فكَ شفرات السجل الرمزي، والقيم الثقافية والاجتماعية والدينية، والأعراف وهلمَ جرَا. وفي الواقع فإن مسألة الأصل في مخيال المتمسكين بنزعة الأصل والأصولية مرتبط بدون وعي غالبا بالنموذج الموجود في الماضي وجراء ذلك فإن فكرة الزمنية تختزل تعسفيا في هذا البعد الواحد مما يجمد لدى هؤلاء حركة التاريخ ويعزز عندها النكوص.