سمير عطا الله يكتب:

ماكبث متنازعاً في بغداد

ترجمة شكسبير إلى العربية من أكثر المهام الأدبية مشقة ودقة، ومن أشدها عقوقاً. فالمسرح لا يُمثَّل حياً، ولا يُقرأ عادة في المنازل، حتى لو كان المسرح الشكسبيري الخطابي الحكمي، الذي يبحث فيه جميع الناس في جميع الأوقات عن قول مأثور، أو شواهد درامية هنا أو هناك.
ترجمات شكسبير الأولى بدأها الشاعر خليل مطران في مصر أوائل القرن الماضي. وكانت من نوع التعريب التقريبي. فقد كان جمهور المسرح المترجم في مصر ولبنان واسعاً. ثم تصدى للمهمة المعقدة الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، الذي اختار بغداد موطناً في ظل شجرة نخيل.

لم أقرأ شكسبير جبرا كما يجب؛ لأنني من المُنعم عليهم الذين قرأوه بلغته، وشهدوا أعماله الكبرى دائماً على المسرح، أو في السينما. لكنني تساءلت يومها كيف لرجل، حتى في مثل كفاءة وثقافة جبرا أن يتصدى لمثل هذا العمل، وما هي جدواه المادية، وحتى المعنوية، أي في النخب الصغيرة؟
ثمة في العراق من ذهب إلى أبعد من جبرا. هذه هي الطبعة الثالثة لـ(دار المدى) لمسرحية «ماكبث» كما رآها الشاعر صلاح نيازي، مقدماً لها ببحث فائق حول الأخطاء، أو الهفوات، أو الإضافات الضعيفة، التي وقع فيها جبرا.
المشقة هنا مضاعفة. الشاعر العراقي لا يذهب مباشرة إلى «ماكبث» لكي يترجمها وفقاً لرؤيته ودراسته، بل يمر أولاً على ترجمة جبرا، ناقداً ومصححاً وعاتباً وليس مجادلاً. فعندما صدرت الطبعة الأولى من ترجمته ومقدمته العام 2000، كان قد مضى أربع سنوات على وفاة الرجل المتعدد المواهب في الرسم والنقد والرواية، وخصوصاً في ذلك العمل الجبار، وهو نقل آثار شكسبير ومناخها الإنجليزي الدرامي، إلى عالم خال من أي مشابهات مماثلة.
غير أن صلاح نيازي أمضى حياته كما يبدو، في تحدي الأعمال الصعبة. وقد ترجم كذلك رواية الآيرلندي جيمس جويس «أوليس». وهو عمل أكثر تعقيداً بكثير في النقل من أعمال شكسبير. فهو من قسمين؛ النص والحواشي. ومن دون الأخيرة، ليس النص سوى سرد تجريبي في حارة من حارات دبلن. وبرغم معرفته المسبقة بهذا الواقع مضى نيازي في المغامرة. فما الجدوى من ترجمة نص، شروحه أكبر منه؟ إلا أن هذا سر لعبة الترجمة عنده: الشراح. الاستفاضة في اللجوء إليهم، والإفاضة في الاعتماد عليهم. ولطالما عاد إليهم في مبارزة جبرا إبراهيم جبرا، الذي يلاحقه سطراً سطراً وكلمة كلمة، وكأنما الغاية الحقيقية ليست ترجمة جديدة لماكبث بقدر ما هي رد الاعتبار لصاحب حقوق الدهشة.
عمل جمالي في مواجهة آخر. ومبارزة وديّة من طرف واحد. لذلك، لا يكف صلاح نيازي عن تسجيل الأهداف. بيادق بيادق.