د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
شرارة الوقود وسيف الفقر يكشفان زيف "جمهورية الملالي"
لم يعد المشهد الإيراني بحاجة إلى محلّل سياسي ليفكّ شيفرته؛ فملامح الانفجار الاجتماعي أصبحت مكشوفة للعيان، تتقدّمها طوابير الغضب الشعبي، وترافقها ارتفاعات قياسية في أسعار الوقود وسعر الصرف، وقرارات اقتصادية تُحمِّل الفقراء وحدهم عبء انهيار دولة أنهكها فساد السلطة.
إن نظام الملالي اليوم يترنّح تحت ضغوط صنعتها يداه، لكنه يواصل السير بثقة عمياء نحو الهاوية، كأنه لا يرى التصدّعات الكبرى التي تضرب كل منظومة الحكم.
فالدولة التي كانت تتغنّى بكونها "نصيرة المستضعفين"، أصبحت اليوم عاجزة حتى عن توفير أساسيات الحياة، بينما تنفق المليارات على مغامرات عسكرية خارج الحدود، وتُغذّي أذرعًا مسلّحة في المنطقة بينما يجوع الشعب في الداخل.
الوقود… فتيل الاحتقان الاجتماعي
رفع أسعار الوقود ليس مجرّد قرار اقتصادي، بل إعلان حرب على الطبقات الكادحة. ففي بلد يعاني من سوء إدارة مزمن، يصبح التنقّل رفاهية، ورغيف الخبز معركة يومية. وقد أدّى رفع سعر البنزين والديزل إلى موجة غضب صامت تتسع تدريجيًا، أشبه بزلزال يتقدّم ببطء، لكن ضربته تكون قاصمة.
ولم ينس الإيرانيون أحداث نوفمبر 2019، حين تحوّل رفع أسعار الوقود إلى انتفاضة واسعة قُمعت بالرصاص الحي، وسقط فيها مئات القتلى. واليوم تتكرّر المقدمات نفسها:
أسعار تحلّق، ورواتب تتآكل، وبطالة تتوحّش، وفقر يبتلع الطبقة الوسطى.
إن النظام يدرك حساسية هذا الملف، لكنه يتعامل معه ببرود قاتل، كأنه يختبر قدرة الشعب على الاحتمال، غير مدرك أن الصبر الشعبي قد نفد منذ سنوات.
سعر الصرف… انهيار يلتهم ما تبقى من حياة
يصحو الإيرانيون يوميًا على سعر جديد للدولار، حتى باتت العملة الأجنبية هي المتحكّم الفعلي في تفاصيل حياتهم، بينما تحوّل الريال إلى ورق بلا قيمة. هذا الانهيار لا يعني فقط تدهور القدرة الشرائية، بل يعني تفكّك الاقتصاد الوطني بالكامل.
وتشير تقارير مستقلة إلى أن التضخم الحقيقي يفوق الأرقام الحكومية بأضعاف، وأن أسعار السلع الأساسية ارتفعت بشكل يدفع نحو مجاعة صامتة.
إن انهيار الريال شهادة وفاة اقتصادية لبلد غني بالنفط والغاز والمعادن، لكنه فقير بسبب سلطة لا تنتج إلا القمع والشعارات والبيروقراطية الخانقة.
الفقراء… الوقود الحقيقي للانفجار القادم
أكثر ما يثير حفيظة الإيرانيين اليوم ليس الجوع بحدّ ذاته، بل الإذلال المنهجي الذي يتعرضون له. فطوابير الدعم الحكومي تحوّلت إلى مسارح إذلال، وصارت الأسر عاجزة عن شراء الحليب والدواء واللحوم.
أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، والمدن تتحوّل إلى بؤر احتقان اجتماعي، بينما يهرب الشباب إلى الخارج بحثًا عن حياة كريمة.
إن هذا الغليان ليس ظاهرة طارئة، بل نتيجة تراكم عقود من الفساد، والمحسوبية، وتغوّل الحرس الثوري على كل مفاصل الاقتصاد.
نظام الملالي… مناورات تأجيل السقوط
يحاول النظام إقناع الداخل بأن الأزمة "عابرة"، ويقنع الخارج بأنه "صامد"، لكنه في الحقيقة يترنّح بين أجنحته المتصارعة، ويستنزف ما تبقى من شرعيته.
خطاب "المؤامرة الخارجية" لم يعد مقنعًا لشعب أدرك أن عدوه الأقرب هو مَن يحكمه، لا مَن يقف خارج الحدود.
والقمع الذي يعتمد عليه النظام لم يعد يخيف أحدًا؛ فجيل الشباب الذي تحدّى الرصاص في احتجاجات 2022 لم يعد يرى في الحكم الديني سوى منظومة متآكلة فقدت كل معنى.
الخاتمة: لحظة الحقيقة تقترب
إن الانفجار الاجتماعي في إيران ليس احتمالًا، بل مسارًا يتقدّم بثبات. رفع أسعار الوقود، وانهيار سعر الصرف، والفقر المتفشّي، جميعها حلقات في سلسلة واحدة تكشف هشاشة الدولة وسقوط خطابها الأخلاقي.
وكل يوم يمرّ دون إصلاح حقيقي يجعل إيران أقرب إلى لحظة الانفجار الكبير، حيث لن تنفع الشعارات، ولن تشفع القبضة الحديدية، ولن يعثر النظام على مهرب من غضب شعبٍ اكتشف أن صمته الطويل كان أثمن من بقاء زمرةٍ استنزفت الوطن، وأن اللحظة التي طال انتظارها قد حانت لاقتلاع سلطةٍ فقدت شرعيتها منذ زمن بعيد.


