كرم نعمة يكتب:

لماذا ينبغي استذكار مدوّن رواية العصر الكبرى "المسرّات والأوجاع"

يتفاقم الجدل حول طبيعة المجتمع العراقي بعد ما وقع له منذ عام 2003، إذ ظهرت أراء متطرفة ونزعات متشددة غير معهودة، فيما تصاعد السؤال بين المؤرخين وعلماء الاجتماع عمّا إذا كان العراقيون مختلفين إلى هذا الحدّ، بينما غابت إلى حدّ كبير قراءة طبيعة المجتمع من خلال ما دوّنه السرد العراقي على مدار عقود.

لماذا ينبغي استذكار فؤاد التكرلي اليوم “رحل عن عالمنا 2008”؟ الإجابة ببساطة تكمن في أن سؤال الاختلاف يتصاعد داخل المجتمع العراقي، بطريقة لم يألفها التاريخ المعاصر.

ولأن الأدب وثيقة تاريخية عن واقع متخيل، كان فؤاد التكرلي ساردا بارعا لأعماق المجتمع العراقي، فمن يقرأ “اللاسؤال واللاجواب” وسبق له أن قرأ “المسرات والأوجاع” ـ إذا اسثنينا عن قصد “بصقة في وجه الحياة”، “الوجه الآخر”، “الرجع البعيد”، “خاتم الرمل” ـ سيصل إلى قدر كاف في معرفة دلالة استذكار الراحل فؤاد التكرلي، وهو يتأمل المشهد العراقي السياسي والاجتماعي المحتدم اليوم.

المخلص لعراقيته
كان التكرلي قد استبق في رؤيته هذا الاحتدام قبل أن يكون شاهدا على وقائعه وكتب تفاصيله بطريقة أدبية بارعة، الأمر الذي دفع الناقد صبري حافظ إلى اعتبار أن التكرلي “قد كتب رواية العصر الكبرى في المسرات والأوجاع” في دراسة نقدية نشرت قبل سنوات على صفحات “العرب”.

فالخبرة في الممارسة الأدبية عند التكرلي كما يقول، هي صنو الخبرة في الحياة المعيشية؟

كذلك يتساءل التكرلي “هل الكتّاب الذين بلغوا شأوا عاليا في سلم الأدب، هم أنفسهم أهل المعرفة والعلم في شؤون الدنيا؟”. كانت الحياة عنده آنذاك صفحة مستوية بيضاء بلا مشاكل ولا عقد فما بال هؤلاء الكبار يشغلون أنفسهم بافتراضات محزنة وأفكار لا تسرّ أحدا؟

كان قد تساءل مرة هل الحكماء في العالم، خلال تاريخنا البشري كله، يملكون بالضرورة خبرة وقابلية على الممارسة الأدبية الفنية؟

مرت بذهن التكرلي هذه الأسئلة بين الحين والآخر ومنذ زمن بعيد، فقد صاحبته بعد فترة قصيرة من مروره، أثناء المراهقة، بتجربة القراءة الروائية التي خلّفتْ عنده ما يستطيع تسميته نزوعا نفسيا وذوقيا إلى كتابة هذا النوع من الأدب.


وحين بدأ بتسويد تلك الصفحات التي لا تنتهي بما ندعوه ـتجاوزاـ محاولات أدبية في القص، لم يكن يملك في الواقع أي خبرة ذات قيمة في الحياة ليس هذا فحسب، بل كان يشعر بغفلة عجيبة أنه ليس بحاجة لهذه الخبرة لكي يستمر في سلوك هذا الطريق الملتوي.

على مستوى متقدم سيجد النقد الأدبي أكثر بكثير من تلك الأسئلة الأولية عندما يشرّح آخر روايتين للتكرلي “اللاسؤال واللاجواب” و”المسرات والأوجاع” فهما مثال عن طبيعة المجتمع العراقي في النزعات التي تكتنفه مثلما يمثل متن هاتين الروايتين صورة بانورامية لمحن مستمرة.

فعندما نستذكر بطل رواية “المسرات والأوجاع” في الخاتمة وقد نزل عليه مبلغ هائل من المال وهو يتجول في الكرادة ويقتني قطعة حلوى نشعر أن المكان في ذاكرة التكرلي قائم ومخلص لعراقيته.

كانت “المسرات والأوجاع” بالنسبة إليّ كقارئ أوجاعا وليس ثمة مسرات فيها ومن يتذكر لوعة البطلة على استشهاد حبيبها في جبهات القتال إبّان الحرب العراقية الإيرانية وتساؤلها هي الحامل بطفل منه، لا يجد مسوغا واحدا على أن ثمة مسرات في هذه الرواية، وكنت أول من حاور التكرلي آنذاك عن تلك الأوجاع الخالية من طعم المسرات، لكنه أصر على أن ثمة مسرات في هذه الرواية.

اللاسؤال واللاجواب
لا تعني السنوات التي ابتعد فيها عن عراقه شيئا، وإلا كيف نفسر تلك البراعة الحسية في صياغة الألم العراقي في “اللاسؤال واللاجواب” أبان طوق الحصار الأعمى الذي كان مفروضا على العراق في عقد التسعينات من القرن الماضي، وكيف الجوع بدأ ينخر في العظم العراقي، ولم يزر التكرلي أثناء إقامته في تونس، بلاده في تلك السنوات إلا مرة أو اثنتين كما أعتقد.

كيف تسنى له أن يتحسس وجع زكية وزوجها عبدالستار المدرس سائق الأجرة الليلي لمواجهة العوز والجوع والخواء وهو الذي كان يسمع الأخبار وحدها في مغتربه التونسي آنذاك؟ “أنه يشبه تغييرا وقتيا في مستويات الحياة المعيشية، نحيا تارة بذاكرة، ثم نحيا تارة أخرى دون ذاكرة. نحيا في زمن يسلسل الأمور منطقيا، ثم نحيا والزمن غائب، وقد غابت معه سلسلة الأسباب والمسببات” أو كما يكتب في الرواية نفسها “فإذا ماعلمنا بأن سعادة البشر تأتي وتروح مثل فراشة تحملها نسمة ربيعية عابرة، فإن التعاسة تقبل تدريجيا بأقدام ثقيلة ثابتة وراسخة”.

عندما قرأت “اللاسؤال واللاجواب” في ساعات الذهاب والعودة من عملي في الصحيفة بقطار لندن وبضعة أوقات أخرى في حانة المسرح الإنجليزي، تذكرت أن الألم كان يعصر قلبه على شعب يسحق تحت وابل التجويع ويلقي به المرض صريعا، كان آنذاك يتراسل مع صديقه الروائي الراحل عبدالملك نوري الذي يروي له الموت القادم والعوز وسنوات الحر اللاهب بلا نسمة هواء.. أليس هذا المشهد من سنوات التسعينات من القرن الماضي نسخة طبق الأصل مما يحدث في العراق اليوم، ذلك يعني أن فؤاد التكرلي رؤيوي بامتياز وملهم يصنع الحدث ويتأمله من سنوات بعيدة.

كذلك بمقدور الموهوبين بالإبداع إنجاز ما لا يمكن لغيرهم إنجازه والتكرلي الذي استطاع أن يؤرخ بامتياز حسي لذاكرة العراق المعاصر في “المسرات والأوجاع” وقبلها “الرجع البعيد” كان عليه أن يدلي بشهادة على سنوات طوق الحصار الأعمى في التسعينات، كذلك ولدت رواية “اللاسؤال واللاجواب” ملتاعة بالألم الموجع على زمن أكثر وجعا.

فؤاد التكرلي يكتب فيما الألم كان يعصر قلبه على شعب يسحق تحت وابل التجويع ويلقي به المرض صريعا

منتصف الثمانينات عندما كان يجالس صحبه في مقهى حسن عجمي في بغداد كان بالنسبة لي هو القاضي المهاب الصامت بثقة، وعندما سألته بخجل حول عامل مقهى حسن عجمي في “الوجه الآخر” الذي لا يمت بصلة للعامل الحقيقي “أبوداود” قال مبتسما لقد استبدلته بعامل آخر استقدمته من مقهى آخر في بغداد.

وحتى في المرات القليلة التي كنت أصادفه في الكرادة بسيارته التويوتا البيضاء وهو يتسوق، كان الحرج يمنعني من الاقتراب من القاضي الذي تفصله مسافات عن الروائي.

لقد كتب التكرلي مرة “كنتُ منذ الصّغر، ألاحظ في الأشخاص الراشدين الكبار في السن ممن يملكون كما خمنت، خبرة في الحياة، مظاهر هموم تنطبع على وجوههم لأسباب لا أعرفها”.

ربما من أجل ذلك كتب مرة “إذا افترضنا أن إنجاز أعمال روائية عالية يحتاج إضافة لذهن نشيط ومتسع، إلى منحة سماوية غامضة أخرى، استطعنا أن نفهم لماذا كان اليونانيون القدماء يعتبرون الحكماء فيهم اسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس، وليس سقراط وأفلاطون وأرسطو، دون أن يكون في ذلك استنقاص من مكانتهم كفلاسفة عظام يبحثون في شؤون الخلق والكون.

أكان ذلك الشعب السعيد المولع بحب الدنيا الأولى، يحدس بأن العقل وحده لا يكفي للوصول إلى الحكمة المطلقة وإلى كنه الحياة البشرية، بل يتوجب أن تساعد هذا العقل هبة ربانية وخبرة عميقة بأحوال
البشر”.