صادق جواد سليمان يكتب:
الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر فيتسع فيسمو
عالم الفكر ليس عالماً راكداً وإن بدا أنه راكد إزاء ما نشهد من صخب عالم الحركة. على أن في عالم الفكر، كمثل ما في عالم الحركة، زبد يناكف ما ينفع الناس. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناسَ فيمكث في الأرض. بذلك تُنبئ الحكمةُ المتعالية في القرآن المجيد.
تاريخ الفكر هو تاريخ الإنسان منذ أن وعى الإنسان على نفسه وبدأ يتفكر في محيطه: ألأرضيَ والكوني. الحضارات عامة في مراحلها المبكرة تلك أودعت أفكارها في صياغات دينية. جميعها في اجتهاداتها لأجل فهم الذات، والكون، والسنن السارية في الكون، تعاملت مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، الأمر الذي جنح بها نحو شروحات غيبية في قراءة الطبيعة وتمظهراتها، في استقراء نشوء الحياة على الأرض وتطور أجناسها، في فهم وضعية الإنسان ضمن حراك الحياة، وفي تخيل مآل الإنسان بعد الموت.
إلا أن الفكر الديني، بعد ردح من الزمن، أمام تراجع اقتناع الناس تماما بأطروحاته الغيبية، لم يجد مناصاً من أن يطرق باب المعرفةِ العلمية، فطرقه، لكن بشديد حذر. في ذلك، بانتقائية لم تحفل كثيرا بضوابط المنهج المعرفي، صنع الفكر الديني سنداً كلامياً زاخراً لتبرير أطروحاته – سنداً متناغماً مع المعرفة العلمية حيثما ناسبه، ومتفادياً الصدام مع مخرجاتها ما أمكنه. بذلك تصالحت الديانات نوعا ما مع المعرفة العلمية، لكن بارتياب مضمر... هذا بعد أن كانت قد خاصمت المعرفة العلمية جهارا لأمد طويل، وتعاملت مع رادتها من العلماء والفلاسفة بإجحاف، وأحيانا أيضا بإيذاء.
الفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولَنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه. هو ما ننطلق منه في تعاملنا مع كافة أمور الحياة، وما نحاول، استنباطا به، اكتشاف خفايا الوجود. فإن كان فكرا سليما جاء نظرنا وأداؤنا سليما وفق نسقه، وإن كان فكرا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته. من هنا كان حرص المفكرين دأبا على ضمان سلامة التفكير، وذلك باجتناب جميع مشوهات التفكير، أكانت عضوية الأثر، كمواد السُكر والتخدير، أو نفسية الوقع، كالانفعالات التي تخرج المرء عن طور الرشاد، كما الغضبُ والغرور والحسد وكراهية الآخر ونزعة الانتقام، وكما الخوفُ والطمع، وكمثل ما تأخذ المرء أحيانا (بل مرارا) من أنانية مفرطة فيجحف لا مباليا بحقوق واستحقاقات الآخرين.
الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر فيتسع فيسمو. هل يمكن تشخيص العناصر الدافعة إلى ارتقاء الفكر؟ بنظري يمكن: العناصر على ما أرى وضوحا، ثلاثة: المعرفة العلمية، المنطق العقلي، الضابط الخُلقي. من ترافد هذه العناصر الثلاثة وتلازمها تكامليا، يتشكل المنهج المعرفي الصائنُ سلامة التفكير والدافع إلى ارتقائه باطراد.
العنصر الأول في المنهج المعرفي هو المعرفةُ العلمية ذاتُها، أي الإحاطةُ بالشيء أو الشأن الذي نتعامل معه إحاطة موضوعية وافية. المعرفة عامة في سياق تبلورها التاريخي نتاج إنساني مشترك، تداورت على بلورته الحضارات من خلال تقابس مستدام. مضمار المعرفة مفتوح أبدا أمام الاستنباط وقابل أبدا للتحقق والتوسع والتعمق والتطور في كافة المجالات. في عصرنا المعرفة تتنامى بوتيرة متسارعة في المدرك الإنساني، بفضل أبحاث رائدة، جادة وجريئة، يقوم بها باجتهاد دائب علماء أجلاء من مختلف الأمم. من محاسن عصرنا أيضا أن المعارف العلمية المتبلورة، من بعد التحقق منها بالمنهج العلمي، سرعان ما تتعمم عالميا فتغدوا في متناول المعاهد العلمية والجامعات في جميع الأوطان، لتتلقفها الأجيال عبر العالم جيلا إثر جيل.
في عصر سلف كان للأمة العربية الإسلامية شأن معرفي مشهود حين جمع وصان وطور علماؤها وفلاسفتها معارف الأولين، ثم انطلاقا مما جمعوا وصانوا وطوروا أنتجوا معرفة فاقت محتوىً ومدىً معطيات ما اقتبسوه بادئ الأمر. ثم إذ انحسر المد المعرفي العربي الإسلامي بعد ردح من الزمن أمام ممانعة أهل الكلام وتشويشات المتصوفين، ثم جراء هجمة المنغول الشرسة والكاسحة على ديار المسلمين منتصف القرن الثالث عشر، تلقفت المنتجَ العربي الإسلامي، أو ما سلم منه وحٌفظ، وهو غيض من فيض، أمم متعطشة للمعرفة العلمية لكن فقيرة منها. في مقدمة تلكم الأمم كانت أمم الغرب الأوروبي.
بعملية اقتباس نشط، غزير، ووسيع، ثم باجتهاد ذاتي متواصل، بُدءاً من عصر النهضة في القرن الخامس عشر، مرورا بالإصلاح الديني خلال القرن بعده، وأخيرا عبر أفكار عصر التنوير تحول الغرب حثيثا إلى أنظمة ديمقراطية علمانية شيد من معطاها تراكميا الصرح المعرفي الذي يعيش الناس اليوم مخرجاتها المعرفية وتطبيقاتها التكنولوجية مدار الأرض.
ثاني عناصر المنهجِ المعرفي الصائنِ سلامة التفكير والدافع إلى ارتقاءه، هو المنطق العقلي وبه نتعامل مع التعالقات بين الأشياء والتعالقات بين الأمور. بالمنطق العقلي نرابط بين العلة والمعلول، بين السبب والأثر، بين التنظير والتجريب، بين الاستقراء والاستدلال، وصولا إلى استنباط الأوفق من الإمكانات الكامنة في الطبيعة، ومن ثم وصولا إلى تخير الأمثل من الخيارات المتاحة للإنسان لأجل حفظ ذاته، تدبير معاشه، إنماء وعيه، وتزكية نفسه.
بصرامة ذهنية يُبين المنطق العقلي الواقعَ كما الواقع عليه، فلا يدع مجالا لبناءات ظنية، أو لشطط، أو تحريف. بالمنطق العقلي نتحرى ونقيس، نميز ونقيم، نستسحن ونسقبح، نتبنى النافع مما نكتشف وننيذ الضار. بالمنطق العقلي نكبح الانفعال، نتحلى بالحلم، نحاذر الشطط، ونستضيئ بالحكمة. به أيضا نُبطل تأثير الرضا والسخط، كونهما أشد العوامل تشويها لسلامة النظر ورجاحة الرأي وعدالة الحكم، كيلا تعودَ عينُ رضانا كليلة عن كل عيب، ولا عينُ سخطنا كفيفة عن كل فضل.
بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع، الظلم يؤدي إلى اضطراب سياسي فتفكك اجتماعي، أن التمييز بين الناس على أساس نسب أو جاه أو مال أو موقع سلطوي يخل بكرامة الإنسان، أن تفشي الجهلِ والفقر يكرس التخلف ويزيد المعاناة، أن التعصب، أكان وطنيا، دينيا، مذهبيا، أو عرقيا، يولد الفرقة ويحدو إلى العنف. ندرك أيضا أن المباعدة بين المسؤولية والمساءلة تعطب أداء كل منهما، فلا المسؤولية تؤدى بكفاءة وأمانة، ولا المساءلة تنجَز برصدٍ يمكّن من تدارك الأخطاء فالتبادر إلى التصحيح. بالنتيجة، ليكن لأيما مجتمع أيُما موطن أو ثقافة أو دين أو مذهب أو عرق، إذا ارتضى تحكم هذه العوامل السلبية في نهجه، فليس له أن يلوم سوى نفسِه إذا تعثر سيره وتردى حاله، وتعسرت عليه سبل استدامة الأمن والنماء.
في المقابل: بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع العدل يؤدي إلى استقرار سياسي ووئام اجتماعي، أن المساواة بين المواطنين تعزز الانتماء للوطن وتحفز على خدمة الصالح العام، أن إرساء شورى صادقة يرابط صميما بين المسؤولية والمساءلة، وبذلك يقي من مفاسد الاستبداد وشرور التسلط، أن نشر العلم واليسر المعيشي يخلق النماء ويثري خبرة الحياة، أن ثبات الوسط الوطني يستجمع الطاقات من كافة الأطراف وبتضافرها يمكّن من انتهاض حضاري. هنا أيضا، ليكن لأيما مجتمع أيما موطن أو ثقافة أو دين أو مذهب أو عرق، إذا حافظ على هذه العواملِ الإيجابية في خبرته، فإنه يشهد تطورا للأحسن، ويجد ميسورا أمامه استدامةَ الأمن والنماء.
ثالث عناصر المنهج المعرفي الصائنِ سلامةَ التفكير والدافع إلى ارتقاء الفكر هو الضابط الخلقي. الضابط الخلقي يرشد الغاية والوسيلة معا، وبذلك يدفع الفرد والمجتمع، بترافد، للارتقاء الفكري. مسعى الارتقاء كثيرا ما يتعرض لمزالق الهوى والحُمق. الضابط الخلقي يحصن المسعى بتوطيد مبادئ العدل، والمساوة، وكرامة الإنسان، والشورى: المبادئُ الأربعةُ المؤصَلةُ قرآنيا، والتي منها تتفرع جميع حقوق الإنسان عالميا، وتُستمد، أو يجب أن تُستمد، حقوقُ المواطنة ضمن كل دولة. ذلك أنه حيثما يوفى بحقوق المواطنة يوفى بحقوق الإنسان، والعكس صحيح.
بمثل ذلك، الضابط الخلقي يلزمنا بالصدق دوما وباللاعنف ما أمكن: الثنائي الذي برهن نضاليا في التاريخ الحديث كل من ماهاتما غاندي في الهند، والقس مارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، والمناضل الوطني نيلسون منديلا في جنوب أفريقيا... برهنوا نجاعة تعاضدية الصدق واللاعنف في إحقاق الحق وإزهاق باطل عنيد. في قناعتي، أيُما فكرٍ لا يستند إلى المنهج المعرفي بعناصره الثلاثة مجتمعة: المعرفة العلمية، المنطق العقلي، الضابط الخلقي، هو فكر غير قويم، أمورس من قبل فرد أو جماعة، أو مورس في سياسة دولة، أو من منظور دين.
بما وعَيتُ عن الشأن البشري أستبنت أن ما يَصلح وينمو به حال فرد، يَصلح وينمو به حال أمة، وبما يَصلح وينمو به حال فرد وأمة، يَصلح وينمو به حال جميع الأفراد والأمم، بصرف النظر عن فارق موطن أو ثقافة أو دين، أو مذهب أو عرق. سنة الله قسطاس مستقيم: لا تحابي أحدا ولا تجافي أحدا، ولا يعرتيها تبديل أو تحويل. كما نزرعُ نحصد: لا عملَ يصدر منا إلا ويرتد أثره علينا، خيرا بخير، وشرا بشر، هنا في هذه الحياة. فإذا شكرنا شكرنا لأنفسنا، وإذا أحسنا أحسنا لأنفسنا، وإذا ظلمنا ظلمنا أنفسنا، وإذا بغينا كان بغينا علينا، وإذا كدنا بالمكر السيء حاق بنا المكر السيء – تلك بصائر من الفكر النير للناس كافة نتدبرها في ألذكر الحكيم.
أخيرا، أفكار ستة أوجزها كتلخيص لما يؤدي إليه العمل بالمنهج المعرفي– أفكار استوعبت في الفكر الإنساني النير منذ القديم، وأكدت بقوة في الفكر العربي الإسلامي: أفكار أرى أنها بقدر ما تستقر في وعي الإنسان ووجدانه، فيفعلها في عموم نظره وأدائه، تصنع له حياة طيبة موفورة النعمِ، ظاهرةٍ وباطنة. بمثل ذلك هي تصنع للمجتمعات عبر العالم، إذا هي عملت بهديها، حياة مهيئة لارتقاء حضاري، رشيد ونبيل.
*الفكرة الأولى هي فكرة وحدة الإنسانية: أن ما هو موحد بين الناس فطرة أعم وأهم مما هو مختَلف بينهم بحكم تغاير البيئات، وتباين الظروف، تعددية الرؤى والمعتقدات.
*الفكرة الثانية هي فكرة الحرية: الحرية ليس بالمطلق، وإنما بالقدر الذي لا ينال من حرية الآخر، شخصا كان الآخر أو جماعة. وراء ذلك، الحرية تؤكًد عامة كحرز أمان ضد الارتهان والاستعباد.
*الفكرة الثالثة هي فكرة المساواة: أن القيمة الإنسانية في الناس كافة، ذكورٍ وإناث، متساوية، وإنما التفاوت ينشأ من تفاوت القيمة المضافة، أي تلك المكتسبة بجهد شخصي. بالنتيجة، التفاوت في المواقع الحياتية للناس لا يُبنى عليه تفاوت في الحقوق، ولا يجاز به استئثار بامتيازات.
*الفكرة الرابعة هي فكرة العدل: أن كل تعامل بين الناس يجب أن يكون بميزان العدل، مرجحا بالإحسان، أن لا معاملة تجحف بحق أي طرف من الأطراف تبقى مستدامة الصلاح في المؤدى الأخير. (العدل مبدأ والعدالة تطبيقاته).
*الفكرة الخامسة هي فكرة كرامة الإنسان: أن لا يهان شخص أو يدان في ذاته، إنما يدان جرمه، فيجزى الجاني بما يتناسب مع خطورة الجرم.
*الفكرة السادسة والأخيرة هي فكرة الشورى (الديمقراطية في عصرنا) الممكنة مؤسسيا من المشاركة العامة في تقرير الأمر العام. الشورى تستلزم ترافد عنصري التمثيل والتشاور معا وسويا: التمثيل بمعنى تفويض من تنتخبه لينوب عنك في تقرير شأن عام، والتشاور بمعنى إلزام من ينتخبون بالعمل ضمن اجتهاد جمعي مؤسسي .
بهذه الأفكار المُثلى على مر العصور ذكّر الأنبياء، إليها ندب الحكماء، بها استقامت الحضارات، وبهديها جرى تطور الإنسانية على مسارات النماء المعرفي، والاقتدار العملي، والارتقاء الحضاري. ولأجل تفعيل هذه البصائر في حياة الأفراد والأمم أكِدت مكارم الأخلاق في الأدبيات الحضارية عالميا عبر العصور.
ما عرضتُ هي منظومة أفكار بديهية، لكنها جوهرية. هي أفكار ترمي إلى تحقيق الصلاح والنماء في الحراك الإنساني في كل زمان ومكان. هي أفكار تتسق مع ما ننشده جميعا من اصطحاب َكل أثر حميد واستقبال كل جديد رشيد. هي أفكار تنبذ العنف، ترفض الاستبداد، تكافح الفساد، وتصون حقوق الإنسان عالميا، وحقوق المواطنة ضمن كل دولة. وهي أفكار تعتمد المنهج المعرفي في التدبير والتدبر، وفي التزكية والتهذيب.
هي، لذلك، أفكار جديرة بأن يتمحور اهتمام العالم حولها، ويتواصل مسعى الأفراد والأمم في ترسيخها: تأصيلا في الدستور، تشريعا في القانون، أداء في السلوك، وتطبيقا في التعامل بين الجميع: تعاونا ضمن الأوطان، وتعايشا وتبادلا للمنافع بين الأمم. هي افكار تنبع من فكر تتحقق به إنسانية الإنسان روجا نحو الأوفى والأمثل باطراد.