ماجد كيالي يكتب:

معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية: بنى جامدة وسياسات مفوّتة

منذ انطلاقها عام 1965 وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها، على الدوام في مواجهة تحديات ومشكلات ومنعطفات، متوالية ومتشابكة، فبعد عامين حصلت حرب يونيو 1967، وبعدها أحداث سبتمبر 1970 في الأردن، ثم اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1976، وأعقب ذلك الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكل ذلك حصل في فترة قصيرة، بالقياس للعمر الطويل لتلك الحركة (55 عاما)، لكنه أدى إلى استهلاك هذه الحركة لطاقتها، وللإنجازات، التي حققتها. وهو ما يمكن تلمسه اليوم، بصورة واضحة ومؤلمة، في قصور أو عجز تلك الحركة عن مواجهة التحديات التي تطرحها خطة دونالد ترامب (صفقة القرن)، أو خطة بنيامين نتنياهو (ضم الضفة أو أجزاء منها).

وعلى أية حال فإن ذلك القصور، أو ذاك العجز، يمكن إحالته إلى أن تلك الحركة كانت اتسمت منذ انطلاقتها، بهشاشة بناها السياسية الجمعية، التي ظلت تفتقد للعلاقات المؤسسية والتمثيلية والديمقراطية، ولعلاقات التداول، بحكم سيادة العقلية الأبوية والبيروقراطية والمزاجية والزبائنية في إدارتها، وضعف الحراكات الداخلية فيها. وفي الواقع فإن تلك الهشاشة في البنى، كانت لها امتداداتها في الإدراكات السياسية التي تأسست عليها تلك الحركة، أيضا، التي اتسمت بقصور وعيها لواقعها وإمكانياتها، ولطبيعة عدوها وللمعطيات العربية والدولية التي تشتغل فيها.

وفي الحقيقة فإن هشاشة وتكلس وفوات البنى السياسية أسهمت بدورها في جمود الفكر السياسي الفلسطيني، وبقائه عند حيّز البديهيات والشعارات والرغبات، في انفصام عن الواقع، وعن العالم. ويستنتج من ذلك أنه لو توفّرت للحركة الوطنية الفلسطينية بنى حية، قائمة على التداول والتمثيل والقيادة الجماعية، لكان بالإمكان تدارك أوجه القصور في الفكر السياسي الفلسطيني، التي يكمن تعيين أهمها في الآتي:

أولاً، الاستخفاف بموازين القوى، وتاليا بالمعطيات العربية والدولية المواتية لإسرائيل، والمشكلة أن هذا الاستخفاف أتى من طرف ضعيف، ومن حركة وطنية تفتقد للاستقلالية، وتعتمد في مواردها على الخارج أساسا، ما يجعلها مرتهنة له ولمحدداته واشتراطاته وقيوده.

ثانياً، لم تول الحركة الوطنية الفلسطينية اهتماما مناسبا لواقعها الخاص، إذ شعبها ممزّق ويتوزّع على عدة دول، ويخضع لأنظمة سياسية وقانونية متعددة ومتباينة، وهو أمر كان يجدر بها أن تلحظه، وتحسب له ألف حساب، بحيث لا تذهب نحو إزاحة الرواية الأساسية التي تأسست على النكبة عام 1948، وعلى الكفاح ضد المشروع الصهيوني، واعتبار أن الصراع بدأ بعد احتلال إسرائيل للضفة والقطاع عام 1967، وأن حق تقرير المصير يمكن اختزاله بحق جزء من هذا الشعب بالاستقلال في دولة، في جزء من الأرض، إذ إن تلك الإزاحة أسهمت في إضفاء نوع من المشروعية على الانقسام الفلسطيني، وعلى تراجع إدراكات الفلسطينيين لإدراكاتهم لذاتهم كشعب، مع وجود حاجات وأولويات مختلفة، ما يقوض شرعية الحركة الوطنية ذاتها.

ثالثا، المغزى أن فكرة المرحلية في الحقوق، التي تبنتها الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ منتصف السبعينات كانت انبنت على التكيف مع الرواية الإسرائيلية للصراع، كأنه مجرد صراع بدأ عام 1987، وليس مع قيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وعلى فكرة سياسية تبرر تجزئة الشعب والأرض والحقوق، بحيث بات خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع كأنه متاهة أو وهم، لاسيما مع ارتهانه للإرادة الإسرائيلية، وليس لموازين القوى، علما أن فكرة المرحلية في الجغرافيا غير فكرة المرحلية أو التدرج، بتصعيد الكفاح وتحقيق الأهداف واستعادة الحقوق.

لو توفّرت للحركة الوطنية الفلسطينية بنى حية قائمة على التداول والتمثيل والقيادة الجماعية، لكان بالإمكان تدارك أوجه القصور في الفكر السياسي الفلسطيني

رابعا، لم تهتم الحركة الوطنية الفلسطينية، بالبعد البنائي المؤسسي لذاتها ولمجتمعها، لذا هي لم تنجح لا في صراعها ضد إسرائيل ولا في توطيد ذاتها وتنمية قوى مجتمعها، عكس ما فعلته الحركة الصهيونية قبل إقامة إسرائيل، إذ كانت أنشأت الجامعة العبرية والهستدروت والصندوق القومي والمؤتمر الصهيوني العالمي، قبل إقامة كيانها السياسي المتمثل في إسرائيل.

خامسا، ظل الفكر السياسي الفلسطيني السائد يستند على العواطف والرغبات، أكثر من استناده على الواقع والإمكانيات والتفكير العقلاني، ولعل ذلك يفسر أن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بات لها من العمر 55 عاما، ورغم كل التراجعات في المواقف والبرامج السياسية، وفي أشكال الكفاح التي اعتمدتها، إلا أنها ظلت تتصرف وكأن شيئا لم يكن، أو كأنها انطلقت للتو.

ما ينبغي ملاحظته هنا أولا، أن الحركات السياسية لها عمر محدد، وأنها يفترض أن تجدد ذاتها وببناها وأفكارها وأشكال عملها، ولا توجد حركات سياسية بقيت على حالها نصف قرن، على نحو ما حصل مع الحركة الوطنية الفلسطينية، لأن ذلك دليل عطالة وليس دليل عافية، ودلال موات وليس دليل فاعلية أو حيوية.

ثانيا، لا يمكن لحركة سياسية أن تقود شعبها في مسار انحداري، على مختلف الأصعدة، فكيف إذا كانت تلك الحركة تعتقد أنها تحقق انتصارات، أو تدعي أنها تفوت التحديات المطروحة عليها، في انفصام عن الواقع. وفي الواقع فإن الحركات الحية الواثقة من نفسها، ومن شعبها، هي التي تعترف بحدود قدراتها وبقوة عدوها.

ثالثا، في الحالة الفلسطينية لم يعد من المجدي الارتكاز على استمرار الواقع القائم، أو إعادة إنتاجه بأشكال مختلفة، بمعنى أن المطلوب، وبإلحاح، إعادة بناء البيت الفلسطيني، والتأسيس لمرحلة جديدة، تقطع مع التجربة الماضية، بكياناتها وشعاراتها وأشكال عملها، وعلى قاعدة الاستثمار في إنجازاتها والمراكمة على إيجابياتها.

رابعا، لم تعقد القصة تتعلق بخيار سياسي معين، سواء كان خيار دولة في الضفة والقطاع، أو دولة ديمقراطية واحدة أو ثنائية القومية، إذ أن الأمر بات يتعلق بإعادة التطابق بين الأرض والشعب والقضية، وبناء الكيان السياسي الجمعي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، وإدارة كفاحه بالأشكال الملائمة والممكنة، ومن دون أوهام، ووفق الظروف الخاصة لكل تجمع، مع الأخذ بالاعتبار الواقعين العربي والدولي.

قصارى القول، فمنذ زمن بات الشعب الفلسطيني إزاء حالة أكثر ثقلا وأصعب وأعقد من مجرد احتلال جيش لأرض وموارد، بل ومن مجرد دولة استعمارية استيطانية عنصرية، فثمة نظام سياسي مركّب، لا يقر بأية حقوق لأهل الأرض الأصليين، ويشتغل على محو هويتهم الوطنية، وهو في ذلك يستخدم كل أشكال الهيمنة والسيطرة والإزاحة، وبأشكال قانونية مختلفة، ما يتطلب مصطلحات وطرق تفكير وأشكال كفاح أخرى، تختلف عن تلك التي تم اعتمادها، في صراع طويل ومضنٍ ومعقد، وبالانطلاق من وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة روايته ووحدة مصيره.