د. عيدروس النقيب يكتب:

من ذكريات صيف 1994م

شهدت الساحة العالمية في ربيع وصيف العام 1994م ثلاثة أحداث ما تزال ماثلة في الذاكرة للمهتمين بالشأنين السياسي والرياضي العالمي، فقد كأن أغلب سكان المعمورة على موعد مع نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي عقدت في الولايات المتحدة الأمريكية، وتابعها معظم سكان الكرة الأرضية فربما كانت هي الحدث الرياضي العالمي الأول الذي جاء في ظل انتشار البث التلفيزيوني الفضائي، وكان الحدثان الآخران هما حربا اليمن ورواندا.

لم أكن وما زلت شخصياً من المولعين المدمنين بمتابعات المباريات الرياضية لكنني أتفاعل مع المبارة التي أبدأ بمشاهدتها خصوصاً عند ما يكون أحد فريقيها يهمني لسبب أو لآخر، وفي ذلك العام الذي كنت فيه مع عدد من الزملاء في العاصمة البلغارية صوفيا لاستكمال دراسة الدكتوراه كان الفريق البلغاري قد أدّى لعباً متميزاً واستطاع معه أن يحتل المركز الرابع في النهائيات في ظاهرة أدهشت حتى البلغار أنفسهم، وقال الرئيس البلغاري حينها البروفيسور جيلي جيليف عن الفريق البلغاري أننا لو أنفقنا كل خزينة الدولة على دبلوماسيينا لرفع سمعة بلغارياً عالميا لما فعلوا ما فعله هؤلاءِ الشباب الأربعة وعشرين.

انتهت مبارات كاس العالم بفوز الفريق البرازيلي على الفريق الإيطالي عن طريق ركلات الترجيح بعد نفاد الزمنين الأصلي والإضافي للمبارة.

لكن أبصارنا وأنفاسنا ومشاعرنا وأعصابنا وهواجسنا وكل اهتماماتنا نحن الطلاب اليمنيين كانت منصبة نحو قضية أخرى وهي الحرب التي شنها الجيش الشمالي على الجنوب وأدت إلى اجتياح أرضه وإسقاط دولته واستباحة كل ما فوق الأرض وما تحتها كغنائم حرب كما هو الحال في كل الحروب اليمنية، وكنتيجة حتمية لتلك الحرب تم طمس كل معاني الهوية والثقافة والتاريخ والنضالات الجنوبية وجرت محاولة إعادة صياغة تاريخ آخر وهوية أخرى للجنوب واستدعاء ثقافات ومظاهر وعلاقات وتراث ومشاهد غريبة عن الواقع والتاريخ الجنوبي في محاولة لإعادة قولبة الوعي الجنوبي بما يضمن ليس فقط أقلمته مع الطرف الآخر المنتصر في الحرب مما كنا نسميه المشروع الوحدوي، لكن لجعله تابعا للطرف المنتصر وتطويع النفيسية الاجتماعية الجنوبية على هذا المعطى وفقا لثنائيات المنتصر والمهزوم، المتبوع والتابع، الفرع والأصل وبفجاجة واضحة الأقوى والأضعف.

كانت تلك هي البداية للدخول في دهاليز مظلمة من الإكراهات لمعاني الهوية والانتماء والتمايز الثقافي والمدني، والتعسفات لمسار التاريخ وتغييب الوعي الوطني، وحلول الظلام محل أي بصيص من النور والادعاء محل أي تبلور للحقيقة والباطل محل الحق وكل مظاهر ومشاهد القبح محل أي جمال كان ذات يوم على حارطة الجنوب.

كانت حرب رواندا ذات خلفيات وجذور عرقية تعود إلى الصراعات التاريخية بين قبيلتي الهوتو التوتسي اللتان تمثلان المكونين العرقيين الأساسيين لدولة رواندا (وبعض الدول المجاورة لها كبوروندي والكو نغوبدولتيها)، ولن أخوض طويلا في تفاصيل هذه الحرب بل سأكتفي بالإشارة إلى أن ضحايا هذه الحرب كان قد تجاوز عددهم الثمانمائة ألف نسمة من القبيلتين، معظمهم ذبحوا ذبحا كالخراف على أيدي مقاتلي الطرفين؟

سيطول الحديث عن مآلات الحرب في رواندا خصوصاً وقد تراجع ذكر اسمها من قائمة الاهتمامات الإعلامية العالمية بعد نهاية القتال، وانشغلنا نحن بالمآلات الكارثية لما بعد الحرب لكن خلاصة الأمر أنه وبعد ربع قرن على هذه الحرب العرقية في رواندا صار هذا البلد على قائمة أفضل الدول الأفريقية استقراراً ونمواً ونهوضاً وأمناً وازدهاراً اقتصادياً وخدمياً واجتماعياً، وقد ركز رئيسها بول كاغامه خلال فترة حكمة (2000م حتى اليوم) على تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وتنمية الموارد الاقتصادية وتطوير السياحة وتحقيق استقرار أمني وتعايش بين أبناء البلد وهو ما تحقق بوتيرة عالية حتى اللحظة

فماذا عن اليمن؟؟

ذلك ما يمكن التوقف عنده في منشور لاحق.