د. عيدروس النقيب يكتب:
ما الذي يجري في تعز؟
يمكن رصد الحالات التالية في منطقة عُرفت بانتماء مدينتها وحتى الكثير من أريافها للمدنية والثقافة والسلام والتعايش، لكنها في ظل اللادولة تنحدر باتجاه الملشنة والفوضى والهمجية، وهذا ما سأتعرض له لاحقاً في هذا المنشور، لكنني سأتوقف عند ظاهرة التباكي على عدن حينما ظل بعض كتبة المليشيات في تعز يتندرون على مظاهر الجرائم التي ارتكبت في عدن منذ سنوات ويعتبرونها فشلاً للجنوب والجنوبيين متغاضين عمن يقف وراء هذه الجرائم ومن يمولها ويخطط لها بل وينفذها، المهم إن الجنوب متهم، لأنه منطقة محررة، وكأني بهم يقولون “لن يصلح للجنوب حالاً إلآ في ظل احتلال ساداتنا له”.
· كان اغتيال الشهيد العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع كقائد مقاوم أفلح في التصدي للجماعة الحوثية ومجح في قيادة تحرير المناطق التي تنتشر فيها القوة التي يقودها، كان علامة انحدار باتجاه اختلال ميزان القوى في تعز لصالح مشاريع يكرسها أصحابها وممولوها وأتباعها اليمنيون لمواجهة مشروع التحالف العربي، وأغرب ما في الأمر أن هؤلاء انتزعوا قراراً بتعيين أحد كبار المحرضين على اغتيال الشهيد عدنان قائدا للواء الذي كان يقوده الشهيد في مفارقة تراجيدية تذكرنا بمسرحيات تراجيديا القرون الوسطى عندما يقتل القائد العسكري الملك ليصعد بدلا عنه ملكا ويتزوج الملكة من بعده.
· يتحدث المرشد الروحي لجماعة الإخوان المسلمين في تعز (المعين مستشارا لمحور تعز برتبة عقيد) بأنه حتى إيران التي قالت أنها “شتغور علينا قاهي معانا” ويشير أن تركيا “شتجيب عربات وأسلحة، وذولاك (يقصد قوات التحالف العربي) شيرجعوا فيران” ويتفاخر أن السعودية لم تستطع على مجموعة من الحوثيين الذين دخلوا إلى داخل أراضيها فما بالك لو تدخلت دول “كبار”، وتضمن حديثه الكثير من الإشارات إلى إن قواته “شنفتح المخا”، ويعلم الجميع أن المخا محررة من قبل قوات المقاومة الجنوبية والتهامية وبدعم التحالف العربي منذ العام 2017م، لكن فتحهم للمخا يختلف عما يستهدفه التحالف العربي.
· مجموعة من الصبية في تعز يقودون مجاميع مسلحة يغيرون بها حيث يشاؤون ويهجمون بها على من يشاؤون بل ويقتلون بها من يشاؤون دون حساب أو عقاب من أحد، لأنهم يفعلون ذلك باسم “الشرعية” وتحت مظلتها، وهل يستطيع أحد أن يعترض على “الشرعية”؟؟!!
كانت آخر حادثة ارتكبها هؤلاء الصبية هي التصفية الجسدية لطفل دون الرابعة عشرة من العمر، حيث اقتحموا منزل الأسرة وأطلقوا الرصاص عليه وعندما توسلت الأم المسكينة بطلب سيارة لإسعافه، قال أحدهم ساخرا “عاديه تشتي تسعفه” فأطلق عليه ما في بندقيته من رصاص وانصرف وعصابته لمواصلة مسيرة القتل “الشرعي”.
السؤال الذي ينط إلى واجهة هذه اللوحة الدامية في مدينة الثقافة والمدنية: هل هذه الأحداث منفصلة عن بعضها أم إنها تترابط بصلة معينة أو بعلاقة ما، تجعلها تتزامن على هذا النحو “التراجوـ كوميدي”؟
أولا لا بد من الإقرار أن “الشرعية في تعز” هي شرعية الإخوان في التجمع اليمني للإصلاح، وحتى عندما يحاول أحد الإخوة المؤتمريين التعزيين وهم كثر الاحتجاج أو الاعتراض أو حتى المطالبة بكشف الحقائق، تبدأ حرب التلويحات والتصريحات بالاتهام للمحسوبين على عفاش، حتى لو كان هذا المؤتمري قد تنصل من عفاش منذ 2011م أما عندما يكون المحتج ممن انضموا إلى الشرعية بعد 4 ديسمبر 2018 فإن الهراوة جاهزة وعنوانها: احمدوا الله إننا قبلناكم بعد أن بدأ حليفكم الحوثي بتصفيتكم، رغم أنهم كانوا قد تباكوا على الرئيس السابق ووصفوه بالشهيد، لكنه لا يحق لأحد من أتباع عفاش استنكار الجريمة والتنديد بمرتكبيها “الشرعيين” لأن درجة شرعية “العفاشيين” منتقصة وليست بمستوى “شرعية” قتلة الأطفال ورواد الإرهاب الفردي والجماعي ودعاة مشروع الخلافة التركي .
وثانيا وهذا هو المهم: إن النماذج الثلاثة التي استعرضناها ليست سوى عيِّنات لحالة سائدة عامة تستفحل حيثما تنتشر المليشيات الإخوانية التي تتلفع بعباءة “الشرعية” وتعمل تحت مشروع خفي يسعى لمواجهة التحالف العربي وإلحاق اليمن بشمال العراق وشمال سوريا وغرب ليبيا والصومال، . . إنه مشروع تركيا التي “شتجيب عربات وأسلحة” وتحول “قوات التحالف العربي إلى فئران” كما قال المرشد الإخواني في تعز.
وثالثا لقد حذرنا مرارا أن الشرعية مختطفة والمختطف معروف ويعبر عن نفسه بكل وضوح، وما ورد على لسان عبده فرحان كان قد ورد بصورة مختلفة على لسان عسكر زعيل، (والإثنان “زعيل وفرحان” من الأيادي المؤثرة والفاعلة لنائب رئيس الجمهورية اليمنية المقيم في الرياض) وقد أكد قادة إصلاحيون من إسطنبول بأن هذا الكلام يعبر عن كل من ينتمي إلى التجمع اليمني للإصلاح، وما على الأشقاء في التحالف العربي سوى قراءة الجدول البياني لمحصلة سخائهم وكرمهم مع من يضمر لهم عكس ما يضمرون له ولليمن واليمنيين.
وأخيرا: هذه المشاهد ليست بمعزل عن بعضها وإذا ما أضفنا إليها السعي لاحتلال مدينة التربة وكل الحجرية ومحاولة تسليم سقطرة والمهرة وشبوة للتيار التركي، لاتذحت اللوحة وبدا الأمر جليا لكل ذي عينين.
لقد فشل هؤلاء في سقطرة والمهرة وسيفشلون في شبوة، وأيضا في تعز، لكن بشروط تستدعي إعادة صياغة التحالفات السياسية في المدينة والمحافظة، بعد أن أعاد الحوثيون والإصلاحيون صياغة تحالفهم وأوقفوا مواجهاتهم ليتفرغوا للقوى المدنية ودعاة الدولة والقانون ونصرة المشروع العربي.
بقيت أسئلة تنتظر إجابات من وجهاء تعز وقادتها المعتقين: ماذا تنتظرون لتعز أكثر مما يجري لها؟ وحتى متى تراهنون على القتلة بأنهم هم من سيعيد لكم تعز وصنعاء من خاطفيهما؟ وما قيمة وجود رئيس وزراء ورئيس برلمان ورئيس مجلس شورى وعدد من الوزراء من أبناء تعز وترددهم على مكتب رئيس الجمهورية ونائبه إذا كنتم لا تستطيعون حماية امرأة وأطفالها وهم يواجهون رصاص الموت والإعدام من حلفائكم؟ وحتى متى تواصلون الرهان على تحالفات مع محترفي القتل وأساطين الاختطاف والبطش؟ ألم تكفكم تجارب ثلاثة عقود من التعامل بنظرية “ثور ندايك” القائمة على المحاولة والخطأ**
مأساة تعز ليست مأساتها وحدها، بل إنها تلخيص لمأساة كل الشمال الذي يراد له أن يتحرر من الأشرار بأشرار مثلهم إن لم يكونوا أسوأ منهم، وكي لا يقول بعض الجنوبيين “هذا لا يعنينا” أسارع بالرد: بلا! إنه يعنينا، ويعنينا جداً فالجرائم في تعز هي جرائم ضد الإنسانية ونحن ندين كل جرائم العدوان على الإنسانية أينما ارتكبت، وبقاء تعز رهينة قوى البطش والإرهاب: حوثية كان أم إخوانية يعني بقاء أبواب جهنم مفتوحة على الجنوب مثلما على الشمال، وتحرير تعز سيكون نقطة انطلاق لتحرير كل الشمال وتأمين الجنوب، شريطة أن يكون التحرير على أيدي قوى غير متورطة بجرائم ما بعد 1994م على الجنوب أو على الأقل معتذرة عنها، ولا يقولن أحدٌ أن هؤلاء غير موجودين، إنهم موجودون وبالملايين لكنهم مفككون ومتناثرون بكل أسف.