د. عيدروس النقيب يكتب:
ماذا يريد هؤلاء الكهول المغبرَّةُ وجوههم؟
ماذا يريد هؤلاء الكهول ذوو الوجوه الغبراء والشعر الأبيض من اعتصامهم المتواصل أمام مقر قوات التحالف العربي؟
سألني صديقي الإصلاحي الذي لا يعرف من تاريخ الجنوب إلا ما بعد 1994م، وكان يعني بالكهول الضباط والجنود العسكريين والأمنيين الجنوبيين الذين أكملوا ما يقارب خمسين يوما على بدء اعتصامهم للمطالبة بحقوقهم المصادرة من قبل شرعيات ما بعد 1994م وما بعد 2015م.
قلت له: هل سمعت بمطالبهم التي عرضوها على الملأ منذ بدء اعتصامهم؟ وهل تابعت المؤتمر الصحفي الذي عرضوا فيه تلك المطالب وعبروا فيها عن تمسكهم بها وعدم استعدادهم للتخلي عنها؟ وهل سمعتهم وهم يكررون أنهم متمسكون بالوسائل السلمية للنضال من أجل تحقيق تلك المطالب؟
يعتبر الكثيرون أن مشكلة العسكريين الجنوبيين جزء من مشكلة الموظفين الحكوميين الجنوبيين الذين لم يتقاضوا مرتباتهم لشهور متواصلة وإنها جزء من حروب التجويع والخدمات التي تخوضها السلطات (الشرعية) ضد الشعب الجنوبي عقابا له على تمسكه برفض وحدة 1994م، والمطالبة باستعادة دولة الجنوب بحدود ما قبل 21 مايو 1990م.
الحقيقة أن جزءًا من هذا الكلام لا يخلو من الصحة، فالمطالبة بالمستحقات الشهرية للموظفين الحكوميين مدنيين كانوا أو عسكريين هي حق مشروع بعد أن أصبح صرف المرتبات بعد عدة أشهر خبراً عاجلا، تتناقله الوسائل الإعلامية والمواقع الصحفية والإلكترونية مثل أي حدث استثنائي لا يحصل إلا كل بضع سنوات.
غير إن ما يميز مطالب المستبعدين العسكريين والأمنيين هو أن عقابهم يمتد لقرابة ثلاثة عقود خلت بعد أن جرى اجتياح الجنوب وتدمير كياناته وجعل دولته وكل مؤسساتها جزءاً من التاريخ المغشوش والمزيف الذي صاغه المنتصرون سيئو النوايا والطوايا والكفاءات في الحرب الغاشمة على الجنوب العام 1994م.
ففي إطار عملية التدمير التي تعرض لها الكيان الجنوبي، كان جهازا الجيش والأمن أول وأهم الضحايا، حيث شُرِّد الآلاف ونُفِي الآلاف واعتقل المئات، ومن تبقى استبعد إجباريا من الخدمة وعومل كل هؤلاء معاملة الأعداء، وتعرض للتضييق والملاحقة والتجويع عشرات الآلاف من الكوادر العسكرية والأمنية الجنوبية، مثلهم مثل كل كوادر الدولة الجنوبية (المهزومة) وأمثالهم الآلاف الذين لم يجدوا ما يطعمون به أبناءهم ويصرفون به على أسرهم.
ومن أسعفه الحظ وخدمته الصدفة من الطيارين والمدفعيين والخبراء عاليي الكفاءة من تحولوا إلى حمَّالين أو بائعي أقمشة أو خرسانة مسلحة في بلدان الجوار.
ومن نافلة القول إن الآلاف من هؤلاء يحملون الشهادات الأكاديمية العليا في التخصصات النادرة وبعضهم لم يكن حينها قد أمضى خمس أو ست سنوات في الخدمة لكن كل هؤلاء (مغبرّي الوجوه ذوي الشعر الأبيض) كانوا ذات يوم يشكلون واحداً من أقوى الجيوش العربية وأكثرها انضباطا وكفاءة ونقاءً وتحررا من الفساد والعبث والمحسوبية والاستعلاء.
نعم إن قضية هؤلاء هي جزء من قضية الموظفين الحكوميين المحرومين من مستحقاتهم المادية منذ أشهر وبعضهم منذ سنوات، وحتى أولئك ليست قضيتهم ببعيدة عن نتائج حرب اجتياح الجنوب، لكن قضية "مغبري الوجوه" تتصل اتصالا مباشرا بتدمير دولة الجنوب والقضاء على مؤسساتها، وحل قضية هؤلاء ذو بعدين:
البعد الأول آني وعاجل ويتمثل بتلبية طلباتهم القانونية المستحقة بموجب القانون اليمني الذي طبقه المنتصرون في بلادهم وجيروه وتلاعبوا به عند التعامل مع ضحايا الحرب الجنوبيين.
والبعد الثاني استراتيجي ويرتبط بإزالة نتائج الحرب على الجنوب، وأول خطوة في عملية الإزالة هذه هي الإقرار بحق الجنوبيين في استعادة دولتهم، وإعداد خطة عملية للجلوس على طاولة الحوار الثنائي الجنوبي-الشمالي لبحث عملية استعادة الدولتين، الجنوبية والشمالية والشروع في رسم أفق جديد للعلاقة بين الدولتين والشعبين الشقيقين والجارين بما يحفظ الأمن والسلام وعلاقات حسن الجوار ومحاربة الإرهاب وبناء الشراكات المتكافئة والنافعة للبلدين والشعبين الشقيقين.
أما إذا كان هناك من يراهن على اندثار جيل "مغبري الوجوه وذوي الشعر الأبيض" فإنه يراهن على المحال، لأن بعد هؤلاء الآلاف عشرات الآلاف من الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات الذين تلقنوا من آبائهم وأجدادهم أن للجنوب دولة كاملة السيادة كان لها صولاتها وجولاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وجرى تدميرها عن طريق الغزو والاجتياح والاستباحة، وسيتعلم هؤلاء الأبناء والأحفاد (وقد تعلموا) أنهم شركاء في النضال من أجل استعادة دولة الآباء والأجداد، وأن ما لم يتحقق على أيدي جيل الآباء سيتحقق على أيدي الأبناء والأحفاد.
وأخيرا:
سيعاني الأشقاء في دول التحالف العربي الكثير من المتاعب إذا ما ظلوا يراهنون على ما يقوله لهم محترفو الهزائم وتجار الحروب وصانعو الخيبات، عن أن شعب الجنوب سينسى دولته ويفقد ذاكرته التي يختزن فيها تاريخ دولته وأمجاد الأجداد والآباء، وأقصر الطرق لتخفيف تلك المعاناة هو الذهاب باتجاه حل القضية عن طريق العودة إلى نظام الدولتين بلا حروب ولا نزاعات ولا ضغائن ولا مكائد ولا وصايات ولا إملاءات من أحدٍ على أحد.
ولله عاقبة الأمور.