حميد طولست يكتب:
الذكريات تنتفظ مع خفوت الأصوات !
كلما اختليت بنفسي وجلست إليها ، إلا وانسدلت أمامي شرائط ذكريات الماضي بحلوه ومره ، وإنتابني شعور عميق بأنّي غير مناسب لهذا العالم ، وشعرت أني لم أعد واحدا من أهله بشكلٍ كامل وحقيقي، واختلطت بدواخلي مشاعر الفرحة بالكدر ، والسعادة بالحزن ، والحب بالكراهية ، وأحسست بالضيق والغربة بين أناس إمتزجت لديهم قيم العدل بالظلم ، والكذب بالذكاء ، والطيبة بالغباء ، والتملق بالإخلاص ، والتواضع بالذلة ، والعلم بالجهل ، والصدق بالحماقة ، واللباقة بالسذاجة ، والوقاحة بالشجاعة ، والتعصب بالقوة ، وغير ذلك من مظاهر القبح والتشوه والبشاعة والنشاز المهيجة لأحاسيس البغض ، والمستدعية لعواطف الكراهية ، والمستنفرة لمشاعر الاشمئزاز المفككة لأوصال المجتمع،التي ترسخت ترسخا في النفوس ، لم تعد النفوس تتحرج منها ، أو مِنْ أن توصف بها ، ما جعل الإنكسار ينتابني ،وغيري كثير، ويسيطر الخذلان على تفكيري ، وأكره نفسي وحالي ، وتتحكم بي شهوة البكاء بحرقة على الذكريات الجميلة ، التي عاشتها نسختي القديمةمع أناس كانوا يقدرون قيمة الحياة ، رغم وزخم جوانبها العتمة ، ويعيشونها بالحب والأمل والجمال والإيمان ، ويعاملون بعضهم بتّسامح وتواضع ودون استصغار أو كره لأحد ، وذلك قبل أن يغير المتنكرين في مسوح المخلصين المصلحين المدافعين عن قيم الوطنية والمبادئ الإنسانية والدينية ، الذين حولوا الدين إلى مجرد لحية وسبحة وجلباب قصير، من طباع الناس التي كانت إلى الأمس القريب سمحة هيّنة تتقبّل ما يجري به القضاء والقدر بالرّضا والتّسليم ، ويقتلوا فيهم كل القيم والمثل الأصيلة التي كانت تخفف عنهم معانات الفقر والجهل والمرض ، ويجرفون بهم إلى قيعان الإفلاس الحضاري والانهيار الأخلاقي ، ويجعلوا من مجتمعهم الآمن غابة يسكنها الخوفُ والهلع ، ويغشاها السلب والنهب والسطو النشل والسرقة والتحرش ، بكل قساوة وحشيته وعنفه ، الذي أحسّ معه البعض بأن من حقهم افتراس الغير ، وشعر البعض الآخر بإمكان أن يكون فيها فريسة وضحية لغيره ، فانصرفون جميعهم إلى نصرة الجهل على المعرفة ، والخرافة على الحقيقة ، والمصلحة على المبدأ ، والعنف على التفاهم ، وتكريس للعبودية على التحرر والانعتاق ، ونشر التطرف والاستبداد ، وفرض الوصاية التي لا تخدم إلا المصالح المناهضة لحقوق الناس، والمخذلة لطموحاتهمِ ، والمعيقة لنماء أوطانهم ، والمنفرة من دينهم ، وغيرها كثير من الرذائل الاخلاقية والنقائص الاجتماعية التي لا تحصى والتي نشرها عفن الشرائع الميتة التي سارت وتسير بالمجتمع إلى الخلف بكفاءة عالية ،أظلمت لها الدنيا ليلة عاشوراء بسبب الفوضى والانحرافات والاعتداءات والجرائم التي عاشتها بعض أحياء المدن المغربية ، والتي ليست إلا دليلا على أن مجتمعنا قطع أشواطا بعيدة في الإفلاس الحضاري والانهيار الأخلاقي، الذي أوصلته ، إستراتيجيات الانتصار الفظيع للجهالة العمياء في تدبير منظومة التربية والتعليم ، إلى أعمق قيعانهما ، بعد أن أماتت المعلم " الأسطورة الحية التي ارتبطت في الأذهان مند فجر التاريخ بالتبجيل والتقدير الذي أوجبه دوره في تربية النشئ على القيم ، كما جاء قول شوقي :
"قم للمعلم ووفيه التبجيل .. كاد المعلم أن يكون رسولا ".
خلاصة القول :هو إنه إذا كانت محاسبة الذين روعوا المواطنين الآمنين ليلة عاشوراء مهمة جدا ، فإن الأهم منه محاسبة الذين كانوا وراء الحط من اهمية المعلم والتقليل من مكانته ، ويحاولون إبرازه في صورة قوة عائقة لنمائهم ومناهضة لحقوقهم ومخذلة لطموحهمِ ، حتى يحتقره طلابه و ينفر منه مجتمعه، وإمعانهم يتفاعل معه بسلبية، فيسهل على مهندسي التجهيل هدم أي نهضة تعليمية ثقافية وعلمية قادرة على دفع المتعلمين الى التفكير العلمي المفضي للوعي ، الذي يحول دون انتاج أمثال أولئك العابثين بحياة المواطنين بتفجير مئات المفرقعات والشهب الإصطناعية .