يوسف الديني يكتب:

ترمب أم بايدن... ركائز السياسة السعودية وثوابتها

أجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود حواراً مطولاً مع «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، عبر مديره التنفيذي روبرت ساتلوف، تحدث فيه عن أهم المفاتيح التي تهم كل الباحثين السياسيين والخبراء الدوليين لفهم مسألة ثوابت السياسة الخارجية للمملكة، من دون تكهنات أو أوهام المحتوى التضليلي الرائج؛ خصوصاً الآن مع طغيان شعبوية الانتخابات الأميركية وطابعها السجالي؛ فالحوار جاء مفصلاً واكتسب أهميته بسبب مستوى الصراحة والشفافية التي جاءت بها تصريحات الوزير، والتي استلهمت حوارات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الأخيرة، وما اجترحته من استراتيجية للمحتوى السياسي المسؤول الذي يعبر عن منطق الدولة المستقرة والمتطلعة للمستقبل، برؤية يعرف قدرها ونتائجها السعوديون والعقلاء في العالم، وفي الوقت ذاته كانت سبباً إضافياً لاستهداف المملكة، بما تقدمه من مرتكزات سياسية واقتصادية تسمي الأشياء بأسمائها؛ سواء على مستوى ملفات الإرهاب والفكر المتطرف أو الصراعات الإقليمية، إضافة إلى الموقف من مسألة السيادة الوطنية.

أهمية حوار وزير الخارجية تكمن في توقيته ومخرجاته، إذ جاء في عالم ما بعد جائحة «كورونا» (15 أكتوبر «تشرين الأول») أو بحسب تعبير الوزير في حواره: «فترة زمنية يشوبها الغموض»، وقبل الانتخابات الأميركية، وبمناسبة الشراكة السعودية الأميركية التي بدأت قبل خمسة وسبعين عاماً، منذ الاجتماع التاريخي بين المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله) والرئيس فرانكلين روزفلت؛ وصولاً إلى أنها تعقب رئاسة المملكة العربية السعودية لمجموعة العشرين التي عززت مكانة المملكة كحجر أساس في تقديم رؤيتها لمعالجة الأزمات العالمية الكبرى. وفي ذلك أكد الوزير أننا في عالم اليوم «على متن قارب واحد»، والتحديات التي تواجه الدول مشتركة، ولا يمكن أن يتجاوز أزمته الراهنة من دون التعاون المشترك وتضافر الجهود والشراكات الاستراتيجية؛ لا سيما مع الولايات المتحدة التي تضطلع مع المملكة بعلاقات ثنائية قوية وطويلة الأمد، وهذه الشراكة ليست مفيدة للبلدين فحسب؛ بل للعالم أجمع، كما أكد الوزير، مستحضراً لحظات تاريخية فاصلة، كالتصدي للمد الشيوعي ومحاربة الإرهاب الذي شكلته التنظيمات المتطرفة من «القاعدة» إلى «داعش»، والتصدي لفكرها وشبكات تمويلها وذهنيتها وأنشطتها في التجنيد، والعمل على تقويض الاستقرار العالمي.

وكما عبر الوزير: «شهدت المنطقة ما يكفي من حالة الفوضى وعدم اليقين، وعانت كثيراً من التوتر والصراعات وزعزعة استقرار حكومات شرعية».


لامس وزير الخارجية في حواره جذر الأزمة في المنطقة، حين تحدث عن استراتيجية المملكة الثابتة تجاه العالم وقضاياه، والذي يكمن في عدم التزام دول بعينها تتقدمها إيران بأي جهود لتخفيف التوترات سياسياً، وحل الخلافات، والاستثمار في شعوبها عوضاً عن الطموحات التوسعية، بينما كان حرص المملكة على لعب أدوار مركزية في اتفاقيات السلام بين دول القرن الأفريقي والانتقال السلمي في السودان، في حين أن مشروع طهران والدول التي تحذو حذوها مُنصَب على تقويض استقرار الدول، ودعم التنظيميات الإرهابية والميليشيات المسلحة، وخلق الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، من لبنان إلى العراق واليمن، وحتى أماكن بعيدة كأميركا الجنوبية، أو بحسب تعبير الأمير: «حيثما وُجدت أزمات في منطقة ما، كان النظام الإيراني حاضراً»، وتجلى ذلك في بناء كيانات ووكلاء لتنفيذ مشروعها التوسعي والتخريبي، وهو الذي أدى إلى استفحال الأزمة اليمنية، التي تتلخص في عرقلة ميليشيا الحوثيين للسلام والاستقرار في اليمن، مما أدى إلى انهيار المجتمع المدني وشيوع الفوضى وانعدام القانون، ومأساة الشعب على مستوى الحالة المعيشية. ومع ذلك تلتزم المملكة إلى جانب المؤسسات الدولية وشركائها الدوليين مبدأ إعادة الحكومة الشرعية لليمن، والسعي إلى حل سلمي يتم التفاوض حوله؛ لكن أهم مرتكز للمملكة في خضم الفوضى الإيرانية بدعم ميليشيا الحوثي هو أمنها واستقرارها الذي يتعرض إلى التهديد المستمر والدائم، بما يزيد على ثلاثمائة هجوم صاروخي، عدا التهديدات المستقبلية في حال تسلح نظام طهران بالسلاح النووي، وتمرير أجندته الثورية، وسلوكه العدائي، ورعايته للإرهاب.

فيما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة، ورغم ما وصفه الأمير بالأجواء المضطربة والرياح المعاكسة، فإن الثابت فيها - بغض النظر عن متغيرات الحالة السياسية الداخلية في أميركا - هو الشراكة والتعاون، والمضي قدماً لبناء عالم أكثر أماناً وازدهاراً.

وزير الخارجية السعودي في حواره كان واضحاً في رسم معالم السعودية الجديدة التي تهدف إلى إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، بوتيرة ونطاق لا مثيل لهما في التاريخ الحديث، من خلال مبادرة التحول الوطني التي جعلتها القيادة السعودية هدفها الأول عبر «رؤية 2030» التي تستثمر فيها مئات المليارات، بهدف تنويع الاقتصاد، والوصول إلى أن تصبح السعودية المحرك الإقليمي الأول لنمو الاقتصاد العالمي، وذلك عبر خلق اقتصادات التقنية والمدن المستدامة، وتحويل التنوع السعودي جغرافياً وثقافياً إلى عامل جذب سياحي، والاستثمار في الإنسان السعودي؛ خصوصاً الجيل الجديد الطامح لمستقبل أفضل من الجنسين. ومع ذلك أكد الوزير أن هذا التحول التاريخي للسعودية الجديدة لا يقتصر على السعوديين، وإن كانوا حجر رحاه، وإنما سيساهم في ازدهار المنطقة وتحريك اقتصاداتها، باعتباره نموذجاً واعداً للتنمية، وخلق شراكات مع دول الجوار والعالم، بعيداً عن مناطق التوتر المزدحمة بمنافسات التطرف ودول رعاية الأزمات وسباق الآيديولوجيات لتقويض الاستقرار، والذي بات هم حلف الأزمات اليوم وأجندته الأساسية في استهداف المملكة.

تطرق الوزير في حواره الذي لا يمكن تسليط الضوء عليه كله في هذه المقالة، على التحالف السعودي الأميركي وعمقه الذي يتجاوز مجرد ملك أو رئيس واحد؛ لأنه ليس حزبياً أو سياسياً؛ بل يتصل بالمصالح المشتركة. ومع حرص الوزير على عدم الخوض في المجال السياسي الداخلي للولايات المتحدة وسباق الترشح؛ فإنه أكد أهمية الحوار الاستراتيجي بين البلدين، والقضايا المشتركة التي تتجاوز الملفات المرتبطة بإطار زمني؛ لأنها تعبر عن توافق السياسات الإقليمية، ونظرة البلدين إلى عالم متعدد الأطراف يتطلع للمستقبل. كما أشار الوزير إلى مسألة مهمة، وهي أن الحوار بين الدولتين هو حوار استراتيجي بين المؤسسات، فهو مرتبط بالعلاقة بين مؤسسات الدولتين، ويعبر عن علاقة طويلة الأمد امتدت أكثر من خمسة وسبعين عاماً، مع إفساح المجال لاختلاف وجهات النظر حول قضايا بعينها تحدث الوزير عنها بشفافية قصوى؛ خصوصاً ملفات حقوق الإنسان والملفات الإقليمية، وما أثير عن السياسة السعودية والإصلاح المؤسساتي والقضائي، وحملات الاستهداف، وأسعار النفط، والمشروعات التوسعية لإيران ونظرائها، وبالطبع صدمة «كورونا» والتجربة السعودية في عزلها والحد من تأثيراتها الاقتصادية. فالسعودية الجديدة - كما ختم الوزير - تتمتع بمرونة كبرى في التعامل مع التحديات والمضي قدماً صوب المستقبل.