حميد طولست يكتب لـ(اليوم الثامن):
ما هو الإنسان إن لم يكن سؤالاً؟
هذا عنوان المقال اقتبسته من شعار رفعته إحدى كبريات الجامعات الأمريكية ، لأتطرق لظاهرة واستفهام الإنسان الدائم عما حوله عبره السؤال -الذي عمره من عمر النطق عند الإنسان- والذي هو وسيلته الأساس إلى المعرفة والاكتشاف وإدراك ما يجهله من الأسرار المحيطة ،
لكن شغف الإنسان الطبيعي بمعرفة ما يحيط به ، وانشغاله الدائم بما يدور حوله ، وإصراره على البحث في كيف هذا ولما ذاك ، و ملاحقة متى وأين وهل ، وغيرها كثير من الاستفهامات التي غالباً ما تؤدّي الإجابة عنها إلى ولادة استفهامات عديدة غيرها لا تخطر على البال ، حولته إلى علامة استفهام كبيرة بائسة ، لا تمل من التدخل في شؤون الغير والمبالغة في استباحة خصوصياتهم ، المنافية للأخلاق ، والتي حذر منها الإسلام، ودعا نبيه صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى تجتنبها ، بقوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ، ولا تكل من حشر أنفها التدقيق في كل ما يستحق البحث والدراسة والتمحيص من عميق التساؤلات الخلاقة ، والتي يُستحسن أن يتغافل عنها الإنسان النبيل مرة ، ويتغابى حيالها مرتان ، ويتجاهلها مرات ومرات ، كضرورة لوقاية النفس من المشاكل المجانية ، واستمرار العلاقة بين الناس ، وإحباط كل ما يمكن أن يستدرجه لمستنقعات تفاهة مراقبة تفاصيل أحوال الغير، والتدقيق في أبسط التفاتات حياتهم ، وأدنى حركات أجسادهم ، والانتباه لأخف شرود أعينهم وارتجاف نبرات أصواتهم ، وإعطائها ألف معنى ، وكأنها طلاسم تحوطها الألغاز والأسرار.
هذه الدعوى -للتغافل والتغابي والتجاهل - لا ترمي إلى تكميم الأفواه ، وتغييب العقول ، وتوقيف نضج الوعي ، ولا تروم حرمان الناس من حقهم في النظر والتدبر والتفكر والتعقل وإبداء الرأي في كل ما يدور حولهم من أحداث وتطورات بغية الوصول للحقيقة التي جعلها الإسلامضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، وإنما هي دعوة لوضع أمر التعامل بين البشر في نصابه المستحق والسوي ، الذي يجب أن يُتجنب فيه وخلاله المبالغة في تتبع أحوال الناس ، والتدخل في شؤونهم الشخصية ، واستباحة تفاصيل حياتهم ، السلوك غير المقبولة اجتماعيًا والعادة المرفوضة دينيًا، والمنتشرة ، مع الأسف ، بين الكثيرين بمختلف عقلياتهم وطباعهم وأخلاقهم ومعتقداتهم ، والذي لا شك في أنه يهوي في الغالب بالعديد منهم إلى الجنون والتهلكة ، لما فيه من الانصراف عن معرفة النفس ، التي هي غاية المعرفة وأنفع المعارف ، والتي لو أتقن المرء قراءتها بشكل جيد ، ووفاها ما لها عليه من حق وواجب الاهتمام والتدارك والتقويم والمعالجة والتشجيع على تبني فعل الخير، وكفَّ عن إشغالها بأمور بعورات الناس ، لعرف الإنسان قيمة نفسه ، ولاستفاد من قدراتها التي هي المنطلق لقدرته على التعايش والتساكن والتعاون مع غيره ، أساس سَلامه وارتياح سريرته هناء عيشه ، الأمر الذي لا يتأتى إلا بتزكية النفس -الأمارة بالسوء - والارتقاء بها إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه ، بمجاهدتها، والانخراط الإيجابي في تغييرها طبقا للقاعدة الربانية : "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" الرعد11 ، التي تفرض على كل مسلم يخشى الله ، مراعاة حاله أولا والابتعاد عن أمور الناس ، إلا لما فيه مصلحة الجميع ، مصداقا لقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "المائدة : 105.
وصدق قوله سبحانه وتعالى : "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ"