حميد طولست يكتب لـ(اليوم الثامن):
ليس بالتفاؤل وحده تتحقق الأماني !
لقد أصبح التحقيق والتدقيق ضرورة ملحة للتأكد من مدى صحة أو انتفاء صحة المسلمات التي اكسبها التكرار صبغة القداسة ، لدرجة غدت معها أي محاولة للمراجعة أو التفكيك أو النقد بقصد الفهم نوعا من التحريم يعرض المقدم عليه للتكفير.
ومن بين زخم تلك الأقوال المأثورة والأمثال الشعبية الدائعة التي يجب التوقف عندها -وما أكثرها- بالتدقيق والتفحص للتثبت من صحتها ، المثالين الشعبيين المشهورين "تفاءلوا بالخير تجدوه" و "ما بعد الشدة إلا الفرج" وغيرهما كثير من المقولات المأثورة التي حولتها كثرة الترديد إلى مسلمات لا يتقبل عامة الناس وخاصتهم نقضها ، لما يشعرهم به تفاؤلهم ، بأن كل شيء سيكون على ما يرام مع قدوم العام الجديد 2021 ، ويعينهم على تجاوز إجهاد ما عاشوه مع محن جائحة "كورونا" خلال 2020 .
فهل فعلا يستطيع التفاؤل مهما كانت قوته على طي صفحة سنة أبرز ما كان من مميزاتها الاعتيادية ، هو حصدُ الأرواح ، ونشرُ المآسي المرعبة والكوابيس المخيفة ، ومحق المتمنيات البشرية في الصحة والعافية ، وقهر لذة تطلعاتهم للأمن والأمان والاستقرار، واستبدالها - رغم فظاعة خسائرها المادية والبشرية - بأخرى أجمل ، يُتجاوز فيها اليأس والإخفاقات ، وتُتحقق خلالها الطموحات والأمنيات ، وتعود أثناءها القيم الإنسانية والدينية إلى أصالتها النقية القادرة على فتح أبواب الأمل والرجاء ، وفسح مجالات الفرح واسعة يحلق الإنسان خلالها في بهجة الحب وعذوبة التسامح ومتعة العفو وسمو مسح الدموع وتخفيف الآلام وتضميد الجراح.
صحيح أن تغيير قديم السلوكيات وبالي الأفكار وعتيق المعقدات، لهو العدو اللدود للإنسان ، ولو كان في لمصلحته ، وصحيح كذلك أن إعادة تصويب مسير الفرد ومساره بما يرضي الله ، وضبط وتنظيم علاقاته بما يخدم الوطن والإنسان ، لأمر صعب وشاق جدا ، لكنه غير مستحيل أمام ما يختزنه الإنسان بدواخله من قدرات جبارة على الانتقال بأحوال نفسه من صحاري التوحش وهمجية الأمر بالسوء ، إلى عوالم الإنسانية التي يرتفع بها منسوب الوعي بقيمة التضامن بين الناس ، وتزداد فيها شحنات التحفيز على عمل الخير وتأمين النظام وخدمة الجماعة ، الذي لا يُقاسُ إلا بحجم ما يُقدم للأوطان والإنسان من عون على اجتياز الأزمات ومساعدات على علاج الأوجاع ، وتحويلها من نفس شريرة إلى خيّرة ، ومن بخيلة إلى كريمة معطاءة ، ومن خاملة إلى مبدعة .
الأمر الذي لا ولن يتأتى -رغم إمكانية حدوته بيسر وسهولة -بالاعتماد الكلي على ما اعتاد عليه البعض من تفاؤل رومانسي يبقي صاحبه سجين أوهام لا تدفع به إلى تحدي الواقع وتجاوز ظروفه الصعبة ، وخاصة إذا كان التفاؤل من النوع غير المقرون بالعمل الذي يغير أحوال النفس -الأمارة بالسوء- ويحررها من انغلاقيتها ، وينقدها من جموديتها ، وينقيها من الأدران المباعدة بينها وبين باحة إنسانيتها ، التغيير الذي أمر رب العالمين في كتابه العزيز : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ، والذي ليس إلا دعوة ملحة وصريحة لإعادة الإنسان لحساباته واستبدال أوضاعه المقلوبة ، والعودة بها إلى إنسانيتها ، والنحو بها نحوًا أكثر رقيًّا وتحضرا ورحمةً وإنسانية، والسمو بها فكريًّا و اجتماعيا و دينيًّا ، فوق كل الأنانيات .
ولذلك، وحتى لو كان التفاؤل والابتعاد عن التشاؤم أقوى الأسلحة التي يمكن أن يتسلح بها الإنسان لإخراج أفضل ما لديه في الظروف الحرجة ، فإنه على المتفائل استخدام جرعاته بشكل محسوب وبكميات صحيحة ومعادلة لمقدار لمقدار ضرر النتائج السيئة ، حتى لا يصاب بخيبة أمل عدم تتحقق آماله ، و يصبح تفاؤله –الذي ليس هو بعصا سحرية -مجرد وهم في واقع قاتم .
وعليه فإنه علينا ألا ننظر لسنة 2020 -ورغم حجم الخسائر البشرية والمادية – بنظرةٍ تشاؤمية ، لأنها سنة تعلمنا الكثيرَ مما جعلنا أشخاصا أكثر صبراً وعنايةً بأنفسنا ، وأكثر إدراكا لقيمة الحياة ومكانة العائلة وقيمة العلاقات الإنسانية .