د. عيدروس النقيب يكتب:

عدن.. قبل أن يندلع الحريق

كل المؤشرات في عدن وتبعاً لذلك في كل محافظات الجنوب، تؤكد أن الأمور تسير باتجاه انسداد الأفق أمام أية حلول ولو إسعافية لأزمة الخدمات والانهيار الاقتصادي وعلى رأسه انهيار قيمة العملة والعجز الحكومي عن أداء أبسط الوظائف، وبروز ملامح المجاعة التي تطل بقرنيها في أفق الحياة اليومية للناس ما لم يسارع الجميع إلى تنفيذ الشق المتعلق بالخدمات والاقتصاد والإدارة من اتفاق الرياض.

تصاعد الغضب الشعبي في مناطق عدن والمحافظات المجاورة الذي ينطلق أحيانا بصورة عفوية نظرا لغياب الناظم المجتمعي والسياسي الذي يمكن أن يؤطر طاقات المجتمع ويمنع من تحول هذا الغضب إلى حالة من الشغب أو إلى طاقة مدمرة.

هذا الغضب له ما يبرره، فمن يقضي معظم وأحيانا كل ساعات الليل والنهار بلا كهربا، ثم يذهب للحنفية ليبلل أطرافه بالماء فلا يجده، ويصرف راتبه الشهري على مصاريف أسبوع، هذا لو استلم الراتب، الذي لا يأتي إلا بعد أشهر تفوق نصف السنة، وحينما يمرض طفله لا يستطيع الحصول على الخدمة العلاجية لا مجانا ولا حتى بثمنها، إن إنسانا كهذا لا يلام إذا ما انفجر غضباً في وجه السلطة التي يفترض أنها جاءت لرعايته وتوفير المتطلبات الأساسية لحياته.

وبمناسبة الحديث عن الشغب، وبعد تناولي في منشور سابق لمطالب أبناء عدن وتعبيري عن الانحياز إلى هذه المطالب، فقد تلقيت رسائل عتاب يقول بعض أصحابها إن هناك تخريبا مدبرا وعناصر مندسة تستغل مطالب أبناء عدن لتمرير مخططات معادية للجنوب ولحكومة المناصفة، وأُذكِّر هنا أنني كنت قد طالبت بعدم تحويل المطالب الشعبية إلى معيقات لحياة الناس اليومية، ونعيد التأكيد هنا رفض أي عمل يمكن أن يتسبب في إثارة الفوضى وتمييع مطالب الناس العادلة أو تحويل غضب المواطنين باتجاه إفساد الحياة المجتمعية والسياسية.

وكما نعلم ويعلم الجميع فإن وجود أعمال تخريبية تستهدف خدمة الأعداء وتشويه المطالب المشروعة لأبناء عدن وما جاورها من المدن والمحافظات أمرٌ واردٌ ومحتملٌ، لكن هذا لا يعفينا من البحث عن أسباب الغضب الشعبي ومناشدة المعنيين بمعالجة تلك الأسباب والاعتراف بالتقصير واحترام إرادة الناس وكرامتهم وحريتهم وحقوقهم.

*       *       *

حينما جرى التوافق على تشكيل حكومة المناصفة كان الحديث يدور حول تفعيل الخدمات ومعالجة أزمة العملة وتوفير مرتبات الموظفين الحكوميين، المدنيين والعسكريين، بما في ذلك المتقاعدين، والتزامات أخرى لها أهميتها، لكن منذ وصول الحكومة حتى اليوم لا تزداد الأمور إلا سوءاً.

فالخدمات تتراجع والأسعار تنافس سرعة الأرنب في سرعة ارتفاعاتها المتتالية، والعملة تفقد المزيد من قيمتها الفعلية، والأمن يزداد سوءًا ومعاناة الناس تتضاعف وصبرهم بلغ مداه، فإين يذهبون ولمن يشتكون؟.

المواطن الذي يعاني من كل هذه الاختلالات لا يهمه أن يأتي من يقول له إن المهيمنين على الشرعية لا يريدون للحكومة أن تنجح، فهو يقول طالما علم رئيس الحكومة ووزراؤه بهذه الحقيقة فما عليهم إلا مصارحة الشعب، والاعتذار عن مواصلة الكذب على المواطنين بالحديث عن التعافي، بينما الداء يزداد استفحالا.

المواطن البسيط المحروق والموجوع والمفجوع لا يهمه من يكره مَن مِن السياسيين، ولا من يتآمر على من ولا من يوالي من، المواطن يهمه من يوفر له حقوقه الأساسية البديهية التي كان حتى صبيحة 22 مايو 1990م يحصل عليها برخص الماء الذي يحصل عليه من حنفية المنزل نظيفا شبه مجاني.

للذين يتلذذون بمشاهدة معاناة المواطنين وعذاباتهم من على بعد آلاف الأميال محاولين تركيع شعب الجنوب وإجباره على التنازل عن قضيته الوطنية الكبرى نقول: حيوات المواطنين ومعاناتهم لا تصلح للمماحكات والمكايدات السياسية، والاستمتاع بتعذيبهم لا يحقق لكم مكاسبَ سياسية أو أخلاقية، بل يعمق ازدراء الناس لكم.

 فالمواطن اليوم ليس كما في الماضي، وقد أصبح يدرك من الجلاد ومن الضحية، ويعرف المتسبب في معاناته حتى لو كان يقيم في أفخم المنتجعات وأفخر الهوتيلات وأكثر المدن ازدهاراً. 

لا يزال بيد الحكومة ومن يقف وراءها أو يدعمها أو من يهيمن عليها أو يعيقها، فرصاً يمكن أن تحول دون اندلاع الحريق، لكن هذا الحريق إذا ما اندلع فإنه سيحول هذه الفرص من ممكنات إلى مستحيلات.

 نقول هذا ليس عناداً لأحد ولا استهانة بالعواقب  الوخيمة التي ستترتب على اندلاع هذا الحريق (لا سمح الله)، ولكن لإدراكنا أن هذا إذا ما حصل سيكون وبالا على الجميع وسيكون أول المتضررين منه هم أولئك الذين يظنون أنهم بمنأى عن شرره.