أحمد عبداللاه يكتب ل(اليوم الثامن):

الخبز والرصاص وتراجيديا الإعلام السعودي

"ليس من حقكم أيها الناس أن تطالبوا بأساسيات البقاء بل عليكم الذهاب إلى الجبهات لتستكملوا موتكم هناك". هكذا يرى إعلام أخوتكم في المملكة! فأنتم -في نظرهم- كائنات لديها خيار واحد لا غير وهو المفاضلة والمفاصلة بين موتين. و بعد أن حررتم أرضكم بصورة سريعة لا تتناسب مع المدى الزمني المفتوح للعاصفة ومقاييس الشقيقة وغير الباحثين عن الحقيقة عليكم أن تذهبوا الآن وتحرروا اراضي الاخوة والجيران وتساعدوا في تمكين الإخوان ثم تعيشوا تحت ظلال سيوفهم (أمةً أولى) مسلوبة الأرض. فلا أحد يغفر لكم هذا الانتصار المستعجل الذي أهديتموه إلى المشروع العربي الجاري تجهيزه في صالونات اصحاب المعالي والذي سيخرج للنور بعد ظهور "أعور الدجال الخرساني".
 
إذن ليس من حقكم أن تبحثوا عن لقمة عيش تشدوا بها أصلابكم أو حفنة ضوء تشعلوا بها لياليكم الجحيمية فما يزال الانتظار طويل. وكأنكم الآن بأول شهيد يصرخ من مثواه الاخير: ما متُّ لأجل هذا!
 
لقد انهالت الاستنكارات على رؤوس المحتجين، وأُصيب اعلاميون سعوديون بهيجان وكأنهم لا يجدون حرية كافية إلا في حديثهم عن الجنوب وأهله تاركين انطباعاً غريباً في عقول الناس بأن خروج المحتجين في عدن يوجعهم أشد من مسلسل الإرهاب.. ما دفع رئيس تحرير إحدى الصحف (المعرّبة) أن يشعرك عزيزي الصابر في زمن البؤس انه واحد من دلالات الإعجاز الإعلامي السعودي حين قال: "لو اتجه المحتجون لمساندة الشرعية في مأرب أو في أي مكان آخر لكان أفضل لهم" أي الأجدر بالجياع إن لم يجدوا خبزاً أن يذهبوا الى الجبهات ليتضح موتهم بالرصاص ويصبح أكثر فائدة من الموت جوعاً!
 
وبهذه الخفّة لا تجد عزيزي المتابع أي تفسير لائق سوى أن تضع ما كتبه في سياق متصل بالمقولات التاريخية الأشد طيش واستهتار بالمسحوقين باعتبار أن ذلك مجرد تنويع ملائم للحدث ووجه آخر أشد قسوة، من حيث نمط التفكير، لما نُسب قبل قرون إلى (ماري انطوانيت) وتسبب في رسم صورة قاتمة لها في ضمائر الأمم من خلال مقولة لم تقلها (؟). لكن هذا الإعلامي يطلق اليوم شيئاً مستفزاً وبحروف فاقعة السواد كالحبر الهندي وهو من جيل الفضاء المفتوح الذي منحه المال السعودي رفعة لا لشيء ولكن ليثبت بأن الأعالي يمكن أن تسكنها الخفافيش أيضاً.  
 
لا لقمة عيش بلدي ولا بسكويت أو بريوش (ماري انطوانيت).. اذهبوا وحاربوا لكي يحتفي بدمائكم هذا الصحافي المرفّه المشحون بفوقية الانتماء إلى بلد ثري لا غير. مع أن ذلك الانتماء حالة قدرية إما أن تكسب صاحبها اخلاق وتواضع أو استعلاء وانتفاخ أجوف. 
 
 كم يتمنى المرء أن ينزل مثل هؤلاء إلى أرض الواقع وأن يتفاعلوا بعلاقة جدلية مع عناصر الأزمة ومعرفة جذورها والمكونات الفاعلة وليس التنظير المجرد من زاوية متلقي الأخبار الطازجة دون الغوص في الجذور.. وهو ما جعل الإعلام السعودي في كل ادائه ومقارباته رديف لسياسة (التيه والغموض) التي تُمارس بصورتها العفوية لا لهدف واع منشود وإنما لأسباب تجري في دماء الدولة العميقة.
 
إن تفسخ بعض الاجهزة والأدوات له مفعول المخدر على عصب الدولة، انعكس في تعاملاتها مع ملفات جيوسياسية شديدة الحساسية على امنها ومستقبلها كدولة اقليمية مركزية واتضحت بشكل جلي في عاصفة الحزم بعد أن ترك العالم ملف اليمن بما حمل في يدها وتركته هي الاخرى بما اشتمل عليه من تعقيدات في ايدي (لجان وسفير... ) حتى انحدر الى هاوية مجهول قرارها وتركت العالم في سبع متاهات.
 
بعدد الطلعات الجوية للطائرات وبعدد التصريحات المملة للمتحدث باسم التحالف وبعدد النكبات الإعلامية التي تسبب بها اعلاميوها وقنواتها يتردد السؤال اليومي: ماذا لو كانت المملكة قد غطست عميقاً في الحيرة التاريخية المظلمة بداخلها أولاً وفتشت عن مسببات العجز في معرفة أوضاع الجار متعدد الأزمات، وانتجت شيئاً اكثر ثباتاً من الاتفاقات الهشة؟