مشاري الذايدي يكتب:

{2030}: رأس مال السعودية وبرميلها الذي لا ينضب!

من أجمل التعبيرات المبكرة في التوصيف لمنطق الدولة هو وصف أرسطو للعلاقة بين النظام السياسي والمجتمع بـ«أسمى الائتلافات». وحسب أفلاطون فيلسوف التنظير السياسي المبكر في التاريخ البشري، فإن العدالة وملاحقة الفساد هي أس بناء الدولة والحكم الرشيد، وهو ما يحقق تكاملية دور السلطة لخلق حالة من الانسجام والتناغم بين مكونات المجتمع والفضاء العمومي، وهو ما عبر عنه ابن خلدون بعبارة رشيقة، معتبراً أن الدولة وجدت لتحقيق النفع وتعميمه على الجماعة البشرية.

بين هذه المسارات الفلسفية لمفهوم قوة الدول وبقائها يستقبل السعوديون ذكرى مضي 5 سنوات على إطلاق «رؤية 2030»، التي رسم ملامحها ولي العهد السعودي «عراب الرؤية» لسعودية متجددة برعاية من خادم الحرمين الشريفين، يمكن القول إنها تحولت من فكرة وحلم إلى صناعة وعلامة فارقة وأنموذج يقدم نفسه ليس للداخل السعودي الأكثر إيماناً بالرؤية ودفاعاً عنها باعتبارها مسألة وجودية للبقاء في الصدارة؛ بل ثورة شاملة مكتملة الأركان يمكن لدول المنطقة الاستفادة منها عبر ما تقدمه من وعود تحققت على أرض الواقع، تتجاوز الجوانب الاقتصادية إلى الرؤية الكلانية الشاملة في إدارة التحديات، وكان من أبرزها: القطيعة مع التطرف، والتحولات الاجتماعية، والتعافي من الإدمان على النفط، ومكافحة الفساد، وإعادة موضعة الأوزان السياسية في المنطقة، والأهم تقديم «فضيلة الاستقرار والرفاه» في المنطقة كمنتج وأولوية سعودية تنظم عقد رؤية 2030 الذي يكمل عامه الخامس لكن بتحديات عقود بسبب تجاوز مسألتين مهمتين؛ الأولى أوهام الممانعة والخوف من التغيير، والثاني الأهم الاستجابة لأكبر تحد عاشته البشرية منذ عقود طويلة، المتمثل في الإدارة الناجحة والتقدمية في التعامل مع جائحة «كورونا»، عدا نجاحات عريضة على مستوى التحول الرقمي وجذب رساميل الشركات الأجنبية واستقطابها، وكسر حاجز الصورة النمطية المجحفة تجاه المملكة ومجتمعها وتنوعها وثرائها.

يستقبل السعوديون اليوم ذكرى الانبعاث التجديدي لرؤية 2030 بأحلام عريضة وآمال كبيرة وثقة لا حدود لها بقيادتهم السياسية، رغم كل التحديات وحملات الاستهداف، لإيمانهم أنها استطاعت في مدد قصيرة تجديد دماء المؤسسات وتحويل المملكة إلى ما يشبه ورشة عمل مفتوحة يشارك فيها الجميع ويضيف لمسارات النهوض والتفاعل مع الرؤية باتجاه مستقبل السعودية المتجددة.

بدأت الرؤية بمقاربة عملية بعيداً عن التنظير وبتشخيص دقيق من دون مواربة، حيث كان جذرها الأساسي منصباً على مهمة شاقة وصعبة تتمثل في نقل اقتصاد السعودية إلى اقتصاد متنوع وحيوي ومتجاوز لـ«إدمان النفط»، وإلى اعتدال ضد الفكر المتطرف والعمليات الإرهابية، وإلى موجات ازدهار في الفنون والثقافة وتنشيط الوجهات السياحية.

لم تركن الرؤية إلى التنظير، بل مارست منذ انطلاقها أكبر مشروع نقدي للذات عبر مكافحة الفساد وملاحقة الشخصيات التي تقف وراءه، إلى الحد الذي أصبح المجتمع يتناقل تصريح ولي العهد أنه سيقف حجر عثرة ويحارب الفاسدين «كائناً من كان».

اليوم هناك حاجة إلى رعاية للرؤية عبر توثيقها وتكريس كراسي الأبحاث في الجامعات والتخصصات ذات العلاقة؛ إلى تدشين مشاريع بحثية لمفاهيمها وأرقامها وسجالاتها، والدور الإعلامي كبير أيضاً، لا سيما مع بدايات الرؤية وإطلاقها، وكلنا يتذكر، خلاف ما اعتاده المجتمع السعودي، كسر الأمير الشاب مهندس الرؤية جدار الصمت، وظهر بشكل لافت في لقاءات إعلامية خارجية وداخلية، ومنها اللقاء المرتقب الليلة، شارحاً ومعلقاً على التفاصيل الصغيرة التي يأخذ بزمامها بشكل دؤوب.

مملكة التفاصيل الصغيرة من مكافحة الفساد إلى مشاريع عملاقة إلى تمكين المرأة، وصولاً إلى إعادة تعريف للكسب وحياة الرفاه والاهتمام بالثقافة والفن، والعودة بمجتمع تغيب عن أسلوب حياة عصرية لعقود كانت استثناء لا يعكس الصورة التي يجب أن تكون عليها السعودية الجديدة، التي تهيمن الدماء الشابة على النسبة الأكبر من وقودها في قطار المستقبل السريع، الذي لا يحتمل الانتظار.

بالعودة إلى الآمال السعودية الكبيرة جاء المشروع العملاق «نيوم» ومعه «ذا لاين»، إضافة إلى السعودية الخضراء، كجزء من الإجابات العملية عن تساؤلات باتت مشروعة في الداخل والخارج حول معطيات «رؤية 2030» السعودية، التي جاءت لتقف جنباً إلى جنب مع صف طويل من المشاريع المزامنة تدشين تلك الرؤية، والتي تَعد السعودية والمنطقة معها بنهضة شاملة اقتصادية ومجتمعية وقيمية، وتحاول إعادة ترميم جزء من انكسارات تعيشها المنطقة بلغت ذروتها في السنوات الماضية حتى بلغت المساس بمفهوم الدولة والتحديات الهائلة ليس على أمنها فحسب، بل على قدرتها على الوقوف أمام تحدي الاقتصادات الجديدة التي تجاوزت الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل، الذي وصفه ولي العهد في حواره الشهير بأنه «إدمان» يجب التعافي منه سريعاً.

الجديد في الرؤية السعودية هي أنها تجاوزت الفصل بين التنمية الاقتصادية ودوافعها الفكرية وقاعدتها السياسية والثقافية؛ في الرؤية الجديدة التي أطلقت عدداً من المشاريع التنموية لم تنبت كأطروحات مالية أو تحليلات اقتصادية مفرغة من سياقاتها الفكرية، بل تمت إضافة «المعنى» لها في سابقة سعودية، حيث كانت تعتمد الخطط التنموية على التمحور حول الاقتصاد وتسريع عجلته مع البقاء في السياق التحديثي في إطاره المحافظ وحده الأدنى الذي لم يعد صالحاً للتكرار في ظل المعطيات الجديدة؛ أجيال شابة وطموحات كبيرة واقتصاد السوق العالمية ودخول مجموعات كبيرة من الشباب والفتيات من المواطنين إلى سوق العمل قادمين من تجارب ابتعاث أو قادمين من قطاع التعليم يجابهون تحديات سوق العمل والتنافسية، وما تتطلبه من أدوات معرفية حديثة ومتطورة.

في السعودية الجديدة تم طي صفحة مهمة من الوصاية التي دشنها الفكر المتطرف، منذ ترسخ مفهوم الدولة ومؤسساتها، عبر انحيازه لمربع المعارضة لمسيرة التنمية والممانعة للتغير والتطور، بشعارات آيديولوجية ذات صبغة دينية متشددة، واليوم يقطف السعوديون ثمرة تحولات الرؤية ونجاحاتها، لذلك يدافعون عنها بشراسة لأنهم يدركون أنها تكلفتها ووزنها السياسي والاقتصادي والمجتمعي. الرؤية باختصار هي رأس مال السعودية ونفطها وبرميل وقود نجاحاتها الذي لا ينضب!