منير أديب يكتب:
ليبيا بين مطرقة الميليشيات وسندان المرتزقة
تمثل الميليشيات المسلحة والقوات الأجنبية المؤلفة من المرتزقة السوريين والأتراك أهم تحد أمام حكومة الوحدة الوطنية الليبية ورئيسها عبد الحميد الدبيبة، فبقدر قدرة هذه الحكومة على تفكيك هذه الميليشيات تنجح الحكومة، فمهمة هذه الحكومة محددة في مواجهة التركة الفاسدة التي ورثتها من حكومة فايز السراج، ممثلة بالميليشيات المسلحة والفساد، وفشلها في حل هاتين المعضلتين سوف ينهي حالها كما انتهت حال الحكومة السابقة، وسوف يظل الانقسام الليبي عنواناً للمرحلة القادمة.
نجاح حكومة الدبيبة التي تم تشكيلها منذ أشهر معدودة وحازت ثقة البرلمان الليبي مرتبط بقدرتها على تفكيك الميليشيات المسلحة الموجودة في طرابلس ومصراتة والتي يصل تعدادها إلى 50 ميليشيا (مجموعات مسلحة تعمل خارج القانون)، بينما يصل عدد المقاتلين فيها الى ما بين مئة وعشرين ومئتي ألف مقاتل، كما أن نجاح هذه الحكومة مرتبط أيضاً بقدرتها على إخراج القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي الليبية، وقد سبق وطالبت نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية، بإخراجها، حتى تتمكن ليبيا من البدء في عملية سياسية على أسس صحيحة.
تتعرض حكومة الدبيبة لضغوط في الداخل قد يكون منها ما يمارسه "حزب العدالة والبناء"، الذراع السياسية لحركة الإخوان، وضغوط دولية تمارسها أطراف لا تُريد الخير لليبيين، وكلها تدفع في اتجاه دمج الميليشيات المسلحة في المؤسسات الأمنية الليبية، وبالتالي ينتقل التفاوض من مجرد تفكيك هذه الميليشيات لتصبح جزءاً من الحياة المدنية إلى أن تكون جزءاً من المؤسسة العسكرية للتخلص منها! وهو ما يُشكل خطراً على مستقبل ليبيا وعلى المؤسسة الأمنية والعسكرية أيضاً.
استعان رئيس الحكومة الليبية بهذه الميليشيات بعدما وضع ثقته بها، والأدهى من ذلك أنه بدأ يبحث لها عن دعم مادي في الميزانية، بعدما خصص لها أو لما قال عنه، القوات الليبية التي تحميه، في البند السادس من الميزانية مخصصات مالية، اعترض عليها البرلمان، وكانت سبباً لرفض هذه الميزانية، وهنا أصبحت أزمة ليبيا في البحث عن دور لهذه الميليشيات المسلحة وليس تفكيكها، وهو ما يؤكد أن حكومة الوحدة الوطنية وقعت تحت تأثيرها.
نجاح حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا مرهون بثلاثة ملفات هي على الترتيب: الفساد، تفكيك الميليشيات المسلحة، إخراج القوات الأجنبية من البلاد. إذا فشلت في التعامل مع هذه الملفات فسوف تظل ليبيا منقسمة ومفككة، وسوف يظل الشرق شرقاً والغرب غرباً، وسوف تحتاج ليبيا إلى حكومة أخرى تضمّد جراحها وتكون بحق حكومة وحدة وطنية.
تبدو الصورة أكثر وضوحاً بعد زيارة الدبيبة الأخيرة لبنغازي بصحبة قوات أمنية محسوبة على الميليشيات المسلحة التي قاتلت الجيش الوطني الليبي، وهو ما يؤكد سقوط الحكومة في الاختبار الأول المتعلق بالملف الأول والمتمثل في تفكيك الميليشيات المسلحة، هذه الحكومة لم تفكك الميليشيات، بل جعلتها ضمن القوات الأمنية المعنية بحماية رئيس الحكومة، وهو تطوّر خطير يُنذر بسقوط هذه الحكومة.
سبق وصرح الدبيبة أثناء وجوده في تركيا بأن القوات السورية والتركية موجودة في ليبيا وجوداً شرعياً ووفق اتفاقية تمت بين أنقرة والحكومة الليبية السابقة، وهو ما عدّه الفرقاء بداية انزلاق الحكومة في مهاوي الانقسام، وهو ما سوف ينتهي بتطلعات هذه الحكومة لدمج الميليشيات المسلحة في المؤسسات الأمنية الليبية، سواء قوات الأمن الداخلي أم رئاسة الأركان.
لا بد من أن تكون الحكومة الليبية على قدر تطلعات شعبها، وأن تأخذ طرف خيط المصالحة وبناء المؤسسات الليبية، ولن يتم ذلك من دون مواجهة دواعي الانقسام بكل قوة وحزم وسرعة، أما إذا وقعت أسيرة للماضي ولقرارات الحكومة السابقة فسوف ينتهي بها الحال كما انتهى بمن سبقها، وسوف تظل ليبيا كما كانت وقد يكون وضعها السياسي والأمني أسوأ.
جزء من أزمة ليبيا له علاقة بالتدخلات الدولية وكثرة الأطراف ذات المصلحة المتداخلة في الشأن الليبي، هذه الأطراف محرك أساسي للسياسة في ليبيا داخلياً وخارجياً، ولا بد للأطراف المختلفة من أن تقدم تنازلات وأن تكون مصلحتها في ذلك تحقيق الاستقرار في ليبيا بعد لمّ شمل مؤسساته وفرقة دامت أكثر من 10 سنوات؛ عقد كامل والمؤسسة الأمنية منقسمة والمؤسسة النفطية كذلك، ومعهما البنك المركزي الليبي، وقبل هذا وذاك الانقسام الاجتماعي، وهنا السؤال: كيف لليبيا أن تتقدم للأمام في ظل هذا الانقسام؟
إذا ظلت ليبيا على انقسامها فسوف يُصيب ذلك جهود مواجهة مكافحة الإرهاب في أفريقيا بأكملها، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الانقسام دليل على قوة التنظيمات الدينية المتطرفة التي ما زالت تحتل وجوداً في ليبيا، وما زالت هذه الدولة الأفريقية بصراعها السياسي داعماً أساسياً لوجودها في باقي القارة السمراء، فالوجود القوي للتنظيمات المتطرفة، بخاصة العابر منها للحدود والقارات، مرتبط بطبيعة الصراع السياسي في ليبيا، وحله سوف يساعد بلا شك على قوة هذه التنظيمات وعلى بقائها من الأساس.
بعد سقوط دولة "داعش" في 22 آذار (مارس) 2019 كان هناك تحد كبير أمام انتهاء الوجود الفعلي لهذه المملكة المزعومة التي بدأت تبحث عن بديل لها، وجدته في ليبيا على وجه الخصوص وفي أفريقيا على وجه العموم، وهو ما تحقق بالفعل، فمصر عانت من الإرهاب لفترة طويلة بعد 2013 بسبب وجودها شرق ليبيا الحاضنة للمجموعات المتطرفة التي كانت تقدم دعماً متواصلاً للمتطرفين الموجودين في الشرق المصري، وتحديداً في الجزء الشمالي من سيناء أو الخلايا الموجودة في محافظات الدلتا، وبالتالي كان مهماً توحيد ليبيا لحماية حدودها والقضاء على التنظيمات المتطرفة على أراضيها.
الأوروبيون مسؤولون عما جرى في ليبيا وما زالوا يتحملون هذه المسؤولية، فحلف شمال الأطلسي "الناتو" هو من أسقط النظام السياسي عام 2011 حتى صارت الحال على ما هي عليه ليبيا الآن، ووافقت جامعة الدول العربية على تدخل الحلف الأوروبي، وكان ذلك خطأً استراتيجياً ما زالت تُعاني منه المنطقة العربية بأكملها وليبيا حتى الآن.
الأوروبيون ما زالوا يتدخلون في ليبيا، ولكن بشكل أعطى وما زال مساحة للميليشيات المسلحة التي كوّنها رئيس الحكومة السابق فايز السراج، الذي أتى إلى ليبيا على رأس فرقاطة إيطالية في 30 آذار (مارس) من عام 2016، جاء موقتاً، وتركت له فرصة تجديد له ولحكومته عاماً واحداً، فزاد أربعة أعوام مضافاً اليها عامان، وفيها استدعى القوات الأجنبية، التي ما زالت موجودة على الأراضي الليبية العربية، فيما عدّه البعض احتلالاً، وما زلنا أسرى الجدل الدائر ما بين إخراج هذه القوات المشكّلة من مرتزقة وما بين وجودها "الشرعي" من خلال حكومة لم تكن شرعية في الأساس، فقد كانت منتهية الولاية، جدل ما زالت تشهده ليبيا حتى الآن.
حل ليبيا يبقى في وجود مؤسسات قوية وقادرة على التغيير، هذه المؤسسات قادرة على التعامل مع تحديات الخارج أيضاً؛ ولا بد من عودة التدخلات الدولية والتركية خطوة الى الخلف مع دعم المؤسسات الليبية، هذا سوف يؤدي إلى نهوض ليبيا ومواجهة تحدياتها، وعلى تركيا وأوروبا أن تتركا لليبيين حرية تحديد المصير والاتفاق، فلن يتفق الليبيون إلا على الوحدة ولن يسعوا إلا إلى خير ليبيا.
على كل دول العالم، ومنها دول الجوار، أن تكون داعماً أساسياً للأمن القومي الليبي، تقدم النصيحة وتترك القرار لليبيين، تساعد ليبيا على مواجهة التحديات بصورة تقفز بها على ما يشكل خطراً على وحدتها حتى تعود دولة قوية ومؤثرة، ليس في محيطها ولا في أفريقيا، ولكن تعود دولة محورية مؤثرة في السياسة الدولية.