إميل أمين يكتب:
فلسطين... امتحان يومي للضمير العالمي
نأى القلم في الأيام الماضية أن يجري على الأوراق متناولاً أي شأن آخر غير الشأن الفلسطيني، وعادت إلى الذاكرة أصداء عبارة فاه بها الكاتب والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، قال فيها: «نحن نقف مع فلسطين، لا لأننا فلسطينيون أو عرب، بل نقف معها لأنها امتحان يومي للضمير العالمي».
ما يحدث في الداخل الفلسطيني، هو تكرار للغي الإسرائيلي السادر، ومحاولة اقتلاع شعب من جذوره بحجج واهية، فقد صرح المتحدث باسم مفوضية حقوق الإنسان، روبرت كولفيل، بأن أوامر الإخلاء الخاصة بحي الشيخ جراح في القدس تنتهك التزامات إسرائيل بوصفها قوة احتلال، وعليه فهي المسؤولة عن الحفاظ على الهوية الجغرافية والديموغرافية للقدس الشرقية.
منذ عام 1967 حتى الساعة، تمضي إسرائيل في طريق تهويد القدس، الأمر الذي يستدعي إدانة مطلقة لطرد الناس من ديارهم، والسعي نحو هدف دوغمائي كفيل بإشعال نيران الحرب الدينية حول العالم.
أظهرت حكومة نتنياهو خلال شهر رمضان امتهاناً واضحاً وفاضحاً للتعددية الدينية في المدينة المقدسة، فقد شاهد العالم عبر شاشات التلفزة الطريقة التي تم التعامل بها مع المصلين في المسجد الأقصى، ومن قبل نحو أسبوعين، مارست سلطات الاحتلال عنفاً آخر تجاه المسيحيين الأرثوذكس خلال عيد الفصح حسب التقويم الشرقي، ومنعت البعض منهم من الوصول إلى كنيسة القيامة يوم سبت الفرح.
لا دالة لإسرائيل على قراءة التاريخ ودوراته والأزمنة وتغيراتها، والاعتقاد بأن القوة الغاشمة هي الحل طرح فقير أجوف، وقد ثبت من تجارب سابقة أن السيف لا يصلح للعيش عليه مرة وإلى الأبد.
تبدو إسرائيل من خلال الاستخدام اللاأخلاقي وغير المبرَّر للقوة العسكرية المفرطة، والسعي لقضم الأراضي الفلسطينية صباح مساء كل يوم، واستخدام المستعمرين لا المستوطنين كأذرع طويلة، منفصلةً عن الواقع ومغرقةً في أحلام تفوق طاقتها، وبخاصة أنها تجد نفسها في نهاية الأمر، ورغم ذرائع التهجير كافة، والعمل على إخلاء فلسطين من أهلها الأصليين، أمام شعب صاحب وجود تاريخي وجغرافي حقيقي وفعلي لا أسطوري، شعب الجبارين الذي لا ينكسر.
فارق شاسع بين قوة الحقيقة التي يملكها أصحاب الأرض، وحقيقة القوة التي يتبناها المستعمر، ويغيب عنه أنه عند نقطة زمنية بعينها، لا تبدو بعيدة، سوف يتراجع مشروعه من عوالم الحلم إلى عوالم الوهم، ومن فضاءات الغطرسة إلى أودية الجنون، وهو في النهاية، أي المشروع الاستيطاني، مؤدٍّ إلى تدمير أصحابه مهما تمادوا.
خُيّل للمرء أن سعي إسرائيل إلى السلام مع جيرانها، وهو ما سيفتح أمامها في قادم الأيام الطريق إلى العوالم والعواصم العربية، هو الهدف الاستراتيجي، وبداية تغيير جوهري لمساراتها ومساقاتها، لكن ما يحدث يوضح أن الأمل كان واهياً، وها هي معادلات جنون القوة تصيبها من جديد، ما يعني أنها تسعى إلى تدمير نفسها بنفسها.
قبل عقود استشرف عدد من رواد الحركة الصهيونية وآبائها الروحيين، وفي مقدمهم، ناحوم غولدمان، مستقبل الدولة العبرية، فقد قال قبل موته: «إن إسرائيل افترست روح الحركة الصهيونية ودمرت تراثها».
أما السياسية الإسرائيلية التي ناصرت الحركة الفلسطينية، شالوميت آلوني، فقد سخرت بدورها من ممارسات إسرائيل من دمار وقتل وسلب وإذلال وعقوبات جماعية على السكان الفلسطينيين، الأمر الذي عدّته منافياً ومجافياً للمواثيق الدولية، وللقيم اليهودية التي تباهي بها دولة إسرائيل.
أثبتت المواجهات المسلحة الأخيرة بين قوات جيش الاحتلال وبين الشبان الفلسطينيين، صحة ما رآه قبل خمسة عقود رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ليفي أشكول، الرجل الذي صاح طويلاً في وجه الجنرالات الذين احتلوا بالحرب، ما لم يكن من الممكن لهم الاحتفاظ به بالسلم... كانت صيحة أشكول: إلى متى يريد هؤلاء لإسرائيل أن تعيش على حد السيف، واليوم ورغم بضعة مليارات أُنفقت على القبة الحديدية الإسرائيلية، ها هي الصواريخ الفلسطينية تطال كل المدن الإسرائيلية.
نحن لا نفرح أو نُسرّ لسفك الدماء على أيٍّ من الجانبين، لكن ما الذي يمكن للمهانين والمجروحين في غزة والقدس أن يصنعوه في مواجهة آلة حرب إسرائيلية بشعة تجعل من نهارهم قلقاً ومن ليلهم أرقاً، ما يجعل الخيار قائماً بين النصر والشهادة.
ليس سراً أن حكومة نتنياهو تعيش مأزقاً على صعيد العلاقات مع إدارة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، ويظهر على السطح أن الوفد الإسرائيلي الذي زار واشنطن مؤخراً لم يوفَّق في تغيير رغبة واشنطن في إحياء الاتفاق النووي مع إيران مرة جديدة، ولهذا يتساءل بعض المراقبين والمحللين السياسيين الاستراتيجيين: «هل ما يجري من إسرائيل هي عملية هروب إلى الأمام، ومحاولة لإشعال النيران على مدى جغرافي أوسع في الشرق الأوسط، حيث الرمال السياسية المتحركة ومن غير إمكانية بالتنبؤ بمن سوف يأتي عليه الدور في الصدام القادم؟».
تبدو الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، لكن ما يغيب عن إسرائيل، لا سيما الجماعات اليمينية المتطرفة فيها، أن كل شبر في القدس ليس مكاناً ليُحتلّ، ولا هي مدينة لتُستباح، ولا أرضاً لتُستلب... القدس عقيدة ووجدان في نفس كل عربي، مسيحي ومسلم، لذلك سيظل العجز الإسرائيلي في فهم جوهر الأزمة قائماً، ما بقيت العنجهية الإسرائيلية.
ويتبقى على الفلسطينيين إقناع الضمير العالمي من جديد بأن قضيتهم لا تتمثل في قتل الإسرائيليين، بل الحفاظ على حقهم في الحياة بكرامة، وحصولهم على دولتهم المستقلة للعيش فيها بأمان، وإتاحة الفرصة للأجيال القادمة، عرباً ويهوداً، لبناء جسور السلام، وهدم جدران المعازل.