فؤاد مطر يكتب:
بداية العلاج الأحمد بالتزام اتفاق مكة
كثيراً ما كنا في ملاذنا على مدى الثمانينات عندما يتقدم الموضوع الفلسطيني على اهتماماتنا كصحافيين نكثر من الاستفسار من زميلنا المخضرم بكر عويضة عن أبعاد الحيوية الثورية التي بدأت تشق طريقها في غزة، التي لم تكن زمن ذاك مدينة الأبراج التي ساء نتنياهو ارتفاعها فانتهز المناسبة الصاروخية الثورية المضمخة بالبارود الإيراني ليجعل من تلك الأبراج ركاماً وبما تحويه المكاتب والشقق في هذه الأبراج من احتياجات العيش والعمل الإعلامي الذي يمسح الندوب المتزايدة في الكيان الفلسطيني الذي يجاهد من أجل اكتساب الشرعية الدولية الكاملة.
وفي أربعائياته في صحيفتنا الخضراء لم يخبر زميلنا قراءه أن غزة ليست فقط أنفاقاً ابتكرت فكرتها «حماس» أو «الجهاد الإسلامي» أو الاثنتان تحفران متعاونتين أو لكل منهما النفق الذي يخصها، وإنما هي أبراج تحاكي من حيث ارتفاعها بعض الأبراج العربية التي أخذت من بريق البناء العامودي، وهذا مدعاة للندم على هذا الانتقال السكني غير المحبب إلى النفس. أبراج تعانق غيوم السماء وأنفاق لعبور الصواريخ والعتاد الحربي على أنواعه. يا لهذه المعادلة الحيوية من جانب إخواننا الغزاويين.
كما أن أحاديث الغربة اللندنية حول الموضوع الفلسطيني كانت تأخذ منا الكثير من التركيز حول أن ما يمكن قوله عن رموز النضال الفلسطيني الموزعين على سلطة وفصائل وحركات أنهم منظّرون من النوع المتميز ويملكون القدرة على وصل لياليهم بنهاراتهم عندما تكون هنالك لقاءات للتشاور في شأن صيغة ما تتطلب أكثرية عند التصويت عليها...
كما يمكن أن يقال عنهم إنهم عندما تكون هنالك حالة انقسام في الصف يبرعون في تبادل مفردات تجعل المتابع لمسيرة النضال الفلسطيني والمتعاطف مع فلسطين كقضية وليس مع رموز ذلك النضال يسائل نفسه: ماذا ترك بعض هؤلاء لخصوم قضيتهم.
وثمة ما هو لافت أكثر من الذي نشير إليه، وهو أن رموز مسيرة النضال الفلسطيني ينكثون العهود أحياناً ويفرطون أحياناً أخرى في فرص كان من شأن التمسك بها أن تفيد كورقة في بعض محطات النضال الفلسطيني، فضلاً على أن هذا التمسك من شأنه إظهارهم أمام الرأي العام العربي المتعاطف معهم أنهم لا يلتزمون بعهود، وكذلك إظهارهم أمام جماهيرهم في المدن والبلدات داخل فلسطين المحتلة وتعاني من وطأة الصلف الليكودي بالذات الذي لا يكتفي بالنيل من كرامتهم وعيشهم وإنما يتعمد في بعض الأحيان النيل من المقدسات، أنهم من الذين يمحون في نهارهم ما يتفقون عليه في ليلهم على نحو المثل الشعري في هذا الشأن.
وحيث إن ما آلت إليه الأحوال الفلسطينية بعد العدوان الليكودي الهتلري الأسلوب والوسيلة والذرائع، يتطلب ما هو أكثر من المساعدات لإعادة الحياة السكنية إلى المناطق الغزاوية، فإن مطالبة رموز النضال الفلسطيني ومن دون استثناء سلطة في رام الله آثرت التعامل كدولة مع تداعيات ذلك العدوان وقيادات تتمنى أن تكون استفاقت من غيبوبتها الإيرانية تمهيداً لطي صفحة غيبتها العربية، ووجدت نفسها أمام وضع يحتاج إلى تفسيرات موضوعية للذي افتعلته ومن الذي أشار بالتنفيذ الذي تجاوز بكثير عملية فدائية تقليدية... إن مطالبة الرموز الفلسطينية بتعديل جذري فيما يتعلق بما يتم الاتفاق في شأنه، هو ما تحتاجه المرحلة الآتية من النضال الفلسطيني الذي دخل حالة الإنهاك ودخلت معه مشاعر التعاطف العربية والإسلامية حالة على مشارف اللامبالاة.
وإذا جاز القول فإن ترميم غربة رموز التنظيمات الفلسطينية عن الدول العربية والتغريد في الفضاء الإيراني هو ما يحتاجه النضال الفلسطيني الآن، وبصرف النظر عما إذا كانت ستتأتى عن ذلك تضحيات يتم تصنيفها على أنها خيبات.
نتساءل كما الذين احتاروا في أمر الذي جرى للقطاع الصابر على الضيم (غزة) من جانب إسرائيل، وهل ثمة جدوى من إعطاء نتنياهو ذريعة لكي يسد بالرد الحربي ثقوباً في المأزق الذي يعيشه ويتمثل في أنه كان حتى بدء الصواريخ تنطلق من غزة على مواقع إسرائيلية عاجزاً عن تشكيل حكومة، وكانت لعدم القدرة على التشكيل محاذير أحدها أنه سيصبح أمام محكمة تمطره بالأسئلة عن سلوكيات وممارسات عائدها السجن كما آخرين سبقوه إلى هذا المصير ولم تنفع لهم مكانتهم الرئاسية.
كما نتساءل: أليس من باب الحيطة وما قد يستتبع إطلاق بضعة صواريخ، من رد فعل بصيغة هتلرية على نحو ما حدث للندن وباريس في الحرب التي خاضها الزعيم النازي ضد الأوروبيين بالدوافع غير العاقلة التي اقتبسها نتنياهو مع تطوير لها تمثل في إسقاط الأبراج التي بدت عملية تدميرها وكما لو أنها لعبة مسلية من ألعاب ابتكارات الطفرة الإلكترونية... أليس من باب الحيطة كان مفروضاً «جنرالات» الجبهة الغزاوية وضع إخوانهم الكاظمين الغيظ ماضياً وحاضراً ودائماً وهم في رام الله من تعالي بني عمومتهم وأخوالهم بل وأجدادهم الغزاويين قادة «حماس» و«الجهاد»، في أجواء مخطط ما هم في صدد الإقدام عليه، فقد تنفع المشورة من جانب «فلسطين رام الله» فتتريث بالتالي «فلسطين غزة». هذا تبين أنه لم يحدث. وهنا يجوز الافتراض أن «جنرالات فلسطين الغزاوية» رسموا الخطط في الغرفة التنفيذية لعملياتهم التي ربما كانت الاتصالات نشطة بينها وبين الغرفة الإيحائية خارج غزة، فلنقل طهران ربما، على أساس أن تصبح غزة مثل كوريا الشمالية أو مثل اليمن الجنوبي... أو حتى مثل كردستان العراق، أو على المدى الأبعد مثل دولة جنوب السودان.
كان الوعي مغيباً وكانت الحسابات قائمة على تخيلات وافتراضات. والمحزن أن «جنرالات فلسطين الغزاوية» أخذوا بالفعل ولم يستوقفهم ما يمكن أن يتأتى على حوار الصواريخ غير المتكافئ بينهم وبين الجنرال الليكودي، وهو هنا نتنياهو الذي خرج بعيداً عن الطور وبدأ حرباً على غزة وليس مجرد الرد بالمثل بمعنى أن مقابل أي صاروخ غزاوي هنالك صاروخ ليكودي بالعيار نفسه وليس التدمير في أحياء ثم إبادة أبراج سكنية ذكرنا إسقاطها عند متابعة أيام المواجهة الغزاوية - الليكودية بالذي جرى لبرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
وبالعودة إلى ما بدأناه ويتصل بأهمية أن يعيد إخواننا رموز النضال الفلسطيني النظر في الأسلوب والمفاهيم وتعديل خرائط الارتباطات وأهمية زيادة نسبة التعريب للقضية الفلسطينية الذي نلاحظ انحساراً نوعياً لمصلحة التفريس، تذكيرهم بأنه إذا كان جف حبر كلام لقاء المصالحة الذي حققته لهم المملكة العربية السعودية في مكة المكرمة وصدر عنه الاتفاق الأهم بين الاتفاقات الفلسطينية - الفلسطينية يوم 8 فبراير (شباط) 2007، فإن العودة إلى قراءة ذلك الاتفاق كلمة كلمة وإرفاق القراءة بالتأمل في القَسَم الذي أداه كل من الرئيس محمود عباس وإسماعيل هنية وخالد مشعل، من شأنها التأكيد بأن روح ذلك الاتفاق لا تموت.
ونقول ذلك مع الأخذ في الاعتبار صدق مرام المملكة من تلك الخطوة التي تحققت وانتهت مع الأسف من دون تفعيل. فهي لم تفعل كما إيران ربطاً للفصائل الفلسطينية الغزاوية بها والتعامل مع رموز تلك الفصائل كمرجعية عاصمتها طهران، وإنما حققت لها قبل ثلاث عشرة سنة صيغة وفاق أرادتها أن تتم في مكة المكرمة وليس في الرياض، كي لا يقال عن المملكة إنها توظف القضية الفلسطينية لمآرب شتى على نحو ما يفعله النظام الثوري الإيراني. وعن ظروف ذلك الوفاق الذي فرط فيه طرفاه حديث آخر.