افتتاحية العرب:

سراب الآمال الدولية في اليمن

يذهب المشهد اليمني بشكل عكسي مع الجهود الإقليمية والدولية الرامية لوقف الحرب التي تدخل عامها السابع، حيث يزداد المشهد تعقيدا وتبرز العديد من المعضلات التي تجعل من السلام المأمول سرابا في بلد ينهار فيه كل شيء عدا الأطراف والقوى التي استطاعت أن تستثمر أجواء الحرب والصراع السياسي والتدخلات الإقليمية لمراكمة الثروة والقوة وتعزيز مقومات خوض حروب ضروس قادمة.

قبل عامين تقريبا سألني أحد سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن عن رؤيتي لنهاية الحرب التي كانت تبدو في ذلك الوقت وشيكة لمن يراقبون التصريحات السياسية الناعمة وبعض أجواء التفاؤل التي كانت تسود بين بعض الأطراف اليمنية، لكنّي صدمت السفير حينها بإجابة مباغتة لم يكن يتوقعها، وهي أن الحرب لم تبدأ في اليمن، فأطراف القوة الحقيقية لم تدخل بعد في اختبار مواجهة فعلية للاستحواذ على نصيب من كعكة اليمن الممزقة، بينما ما تزال تلك القوى والأطراف الرئيسية تنمّي قوتها السياسية والعسكرية والمالية عبر اقتصاد نشط للحرب نشأ في اليمن خلال السنوات الماضية وشهد حالة طفرة هائلة تسببت في ثراء قادة الفصائل السياسية وزعمائها ورفدت قدرات مكوناتهم بأسباب البقاء والاستمرار، وترقب التحولات المحلية والإقليمية والدولية دون عجلة.

ومن يتفحص التحولات التي طرأت على خارطة القوة في اليمن منذ بداية الحرب وحتى اليوم، يجد أن تلك الحرب بدأت بسيطرة ميليشيا الحوثي على إمكانات الدولة وقدراتها وعلى الجيش اليمني لخوض حرب توسع امتدت إلى محافظات جنوب اليمن، في مواجهة مقاومة شعبية تشكلت بشكل تلقائي وتمكنت عبر دعم سخي من التحالف العربي في تحرير مناطق شاسعة وإعادة الحوثيين إلى مناطق الشمال التي لم يتمكن الحوثي من إكمال سيطرته عليها بشكل كامل نتيجة فشل اجتياحه لمحافظة مأرب النفطية وخسارته لاحقا مناطق شاسعة في محافظات الجوف وصنعاء (نهم) وصولا إلى الحديدة التي كان استكمال تحريرها سيضع الحوثي في منطقة معزولة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.

ومع طول أمد الحرب برزت العديد من التعقيدات الجهوية والأيديولوجية والسياسية وطفت خلافات ما بعد التحرير بين الشركاء في جبهة مواجهة الانقلاب الحوثي إلى السطح، كما فاقمت مغادرة الدوحة التحالف العربي من حمّى التناقضات والصراعات داخل معسكر المناوئين للحوثي إما بفعل تحفيز البعد الأيديولوجي لدى بعض الأطراف السياسية أو شراء ولاءاتهم وكل تلك العوامل تضافرت مع بعضها لخلق فسيفساء جديدة في خارطة السياسة اليمنية نشاهدها اليوم بكل وضوح وهي تتهيأ للانقضاض على بعضها وتحشد كل إمكانياتها المتراكمة للسيطرة والتمكين والنفوذ وإلغاء الآخر.

وبعد أن كان العالم يراقب صراعا وحربا بين طرفين خلال سنوات الحرب الأولى، أصبحت معادلة القوة في المشهد اليمني اليوم أكثر تعقيدا، فإلى جانب الميليشيات الحوثية التي استطاعت بناء نمط جديد من القوة المدعومة من النظام الإيراني بهدف إلحاق الضرر بخصوم طهران عبر الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية.

هناك قوى أخرى لم يعد بالإمكان تجاهلها، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يمتلك ذراعا عسكرية طائلة توازي ذراعه السياسية في الجنوب، بينما استطاع الإخوان بناء قوتهم الخاصة تحت رداء “الشرعية”، وفي المقابل استطاع حزب المؤتمر الشعبي العام بشكل أو بآخر صنع ذراعه العسكرية أيضا عن طريق قوات المقاومة الوطنية التي يقودها نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في الساحل الغربي.

كما أن السلفيين الذين لا يجمعهم بكل أطراف الشرعية إلا تحفزهم لمواجهة الحوثي، باتت لديهم قوتهم الخاصة “العمالقة” التي تضم اليوم ألوية ضارية من المقاتلين الشرسين الذين يخوضون قتالا ضاريا ضد الحوثي في أكثر من جبهة ودون أيّ أجندة سياسية.

وفي إزاء كل هذا التشظي الذي تخفيه خارطة اليمن الجيوسياسية، يرى البعض أن الآمال الدولية حول تحقيق سلام في اليمن لا تعدو عن كونها سرابا سياسيا يترافق مع حالة استعجال وتململ دولي وإقليمي لإغلاق الملف اليمني المزمن الذي يهدد أحد أهم طرق الملاحة الدولية ويعكر صفو أكثر مناطق العالم إنتاجا للطاقة، في الوقت الذي تشهد فيه السياسية الأميركية حالة مراجعات حادة في الملف الخارجي، كشفت عنها مواقف واشنطن اللينة تجاه التعنت الإيراني، وهروب واشنطن المفاجئ من المستنقع الأفغاني، والسعي لإغلاق كل الملفات الساخنة دفعة واحدة أو تركها تنزف وحيدة، وهو الأمر الذي قد يطال الملف اليمني قريبا مع تسرب حالة الإحباط الأميركي والأوروبي حول إيجاد حل سريع وسحري لملف شديد التعقيد مثل ملف الحرب اليمنية.

وربما تفصح التصريحات الأميركية الأخيرة حول الاعتراف بالحوثي كطرف في المعادلة اليمنية، وإرسال رسائل متناقضة للحوثيين ومن خلفهم طهران، وأخيرا اتخاذ قرار بعودة التعاون الأمني والعسكري مع قوات الحكومة اليمنية المعترف بها شرعيا، تفصح عن تراجع قائمة الأماني الدولية في اليمن من مستوى تحقيق سلام هش، إلى الاكتفاء بحماية مصالح العالم الملاحية في البحر الأحمر وتأمين مصادر الطاقة والتركيز على الجانب الأمني لمواجهة خطر القاعدة وداعش، وترك اليمن يغرق في جولات قادمة من الصراع بين أمراء حرب باتوا يتربّعون على عرش المشهد، على الطريقة الصومالية، حتى تفرز تلك الحرب رابحا واحدا أو رابحين قادرين على فرض شروطهما على الأرض.