د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
أوطان مختطفة وأحلام مصادرة !!
كل من يخطبُ اليوم باسم الوطن ويحاضر بالوكالة عن الأرض والبلاد، كلّ الذين يوزعون صكوك الوطنية على الآخرين اليوم ليسوا إلاّ لصوص الوطن الحقيقيين، المتنكرين برداء الكفاح والثورة والجهاد، فأنت حين تعيشُ في أرضٍ تُسرقُ فيها الأحلام وتُرجم الآمال ، تجد وقتها ألف عذرٍ لأولئك الذين يركبون الموج هاربين بما تبقى لهم من شجاعة، أيديهم على قلوبهم، تصحبهم كلّ أدعية النجاة حتّى يبلغوا ضفّة الحياة ..لكن لصوص الأحلام قد وضعوا أيديهم فوق كل شيء حتى الأمل الذي كنا نخبئه سرا في صدورنا سرقوه منا وصادروا آمالنا معه قسرا، نحنُ الجيلُ الذي تربّى على الألم والحزن ، الجيلُ الذي رأى لون الدم أكثر مما رأى لون السماء، وذاقوا طعم المأساة أكثر مما استطعم بهجة الحياة، نحنُ الذين تعرفنا بمصطلح " الإرهاب" أول مرة، فكنا ندعو الله أن يكون مجرد مسلسل رعبٍ مقيت، أو فيلماً سيء التصنيف سينتهي حالما نفتح أعيننا جيداً ونفركها، ونعيد النظر إلى الأشياء بنظرةٍ أخرى، لكننا في الواقع كنا نغرقُ في كلّ مرةٍ أكثر فأكثر. نحنُ جيلُ وتبعته أجيال الأبناء والأحفاد وجدت لشرور أمامها ، وجدنا أنفسنا نعيش زمن الانكسار والانحطاط، تماماً كما حدث في رواية "يوتوبيا" المرعبة التي قرأتها وكل من قرأها قال إن الكاتب كان يملك خيالاً متشائماً إلى أبعد حد، اليوم ننظر بعيون يملأها الغبار إلى المئذنة العملاقة، ونفكر في أننا تفاءلنا أكثر من اللازم. ماذا أطعمنا هذا التفاؤل غير الرملِ والتراب؟ كبرنا جداً، كبر فينا العجزُ والانتظار، لا نحنُ تغيرنا ولا استطعنا إحداث أي تغيير، ولا هم اكتفوا بما أخذوا وتنازلوا لنا عن بعض الحياة، نقولُ في أنفسنا معزّين، هذا وطنٌ ليس بالضرورة أن يكون الوطن جنّة، هناك في الجنّة ما هو أجمل من كلّ الأوطان، ونظلّ نعزّي أنفسنا وما في أنفسنا يتآكل مع الأيام والزمن.
يوم قالها ذلك الكهل التونسي " لقد هرمنا "، كان يأملُ بشيءٍ أفضل مما عاشه طوال حياته، نحنُ أيضاً قد هرمنا، تجاوزنا كلّ شيء هنا، تخطانا الزمانُ وضاق بنا المكان، واختنقنا ونحنُ نحاولُ في كلّ مرةٍ أن نمسك بأطراف الوطن، تخلّى عنّا البعض ثم سحبنا أيدينا أخيراً، كان ما تبقى من ضوء الأمل يأفل شيئاً فشيئاً، في النهاية تركنا لهم كلّ شيء، وبدأ شبابنا رحلة البحث عن أوطانٍ بديلة. لا يهمّ في أي القارات يقع، ولا اللغة الرسمية فيه، لا المناخ يعني فقيراً كان أم غنياً لا يهمّ، المهم أن يكون وطناً وحسب، نشيده تغريد العصافير أو صوت المطر على ورق الشجر العريض، يريدون وطناً يشبههم ، يغضب عندما يغضبون، يبتسم عندما يبتـــــسمون ، يبكي عندما يبكون .. ويحن على أجسادهم عندما يموتون يبحثون عن وطن ليس له سجل أسود في الأمم المتحدة، ولم تدخل قدمه مجلس الأمن أبداً، لم يحتّل أرضاً ولم تحتّل أرضه، شباب في عمر الزهور لا زالوا يبحثون عن وطن لم تتعمّق فيه مؤسسات الفساد، ولم تنبت للقوانين أنياب تنهش الفقير والضعيف فقط، الحياة فيه سهلة والموت نادراً، لا تمارس الشمس شروقها بتثاقل، ولا ينخسف القمر غضباً، وطن يتزّعمه رجل حكيم وطيب لأنني أحبه لا لأنني أخافه، بل لأنني أؤمن به لا لأنني أنافقه، يفرح عندما يرى شعبه سعيداً هانئاً، مسالماً، ليس لديه شهوة القصور، مجلسه مفتوح للمظلومين والمكلومين والخائفين والوطنيين الحقيقيين !!
بحث عن وطن يبني المدارس ويهدم السجون، يزرع الحب ويقتلع الخوف، يشيد العدالة وينسف الظلم، أبحث عن وطن أكبر من كل القامات والهامات والهالات والخطابات الخادعة، أستنشقه صباحاً أملأ رئتيّ بهوائه لأقول له شكراً أنك وطني أبحث عن وطن شجاعٍ لا يخاف أحداً، لا يعطي معصميه لقيد، أو يحني ظهره لأحد، أو يربط اسمه بأحد، لا يخجل من أن يصارح كل الموهومين بعظمتهم أنكم لا شيء دوني، أنا البداية والوجود، أنا بوابة الخلود، لا تزوروا التاريخ باسمي بالخرافات والأساطير وتقتلوا أحلامنا وتدعون كذبا وزورا أنكم أخوتنا وفي الوقت نفسه تقولون أننا مجرد مهاجرين دخلاء على الجنوب !!
تطالبون بالوحدة وتزورون التاريخ وتمارسون الظلم والقتل ضد أهلها أبناء الأرض الحقيقين ، تريدون أن تستعبدوا الشعوب باسم الدين وتحتكرون الحكم لكم باسم السلالة والوصاية وأقول لكم انني لن أهاجر ولن أسافر ولن أبحث عن وطن بديل فالجنوب أرض آبائي وأجدادي ولن تستطيعوا اقتلاعي من أرضي ولن أبحث عن وطن بديل فعروقي فيه أعمق وأقوى من جباله الراسيات الشامخات ، انه وطني الشامخ الذي ينتصب أمامكم ،ومهما طال سفر البعض من أبناءه الذين اغتربوا قهرا وقسرا فهم في النهاية سيعودون حتما ولن يبقوا على ضفاف المحيطات في المهاجر البعيدة والقريبة ومهما امتدت سنوات اغترابهم فلن يجدوا وطنا أفضل من الجنوب وستظل أشجانهم وأحزانهم ساكنة في قلوبهم رغم البعد عنه آلاف الأميال لكنه سيبقى هو الأصل وطن الهوية والأحلام ولسان حال المسافر والمهاجر منهم يقول :
"وطني أحتضنه ويحتضنني، أكتشف فيه ذاتي، وأعثر فيه على هُوِيَّتي، وأحقِّق فيه أحلامي
وطن ألجأ إليه كلما ثارت هواجسي، وساءت ظنوني، واشتدَّت العواصف من حولي ولا زالت رحلتي مستمرة حتى ألقاك يا وطني وحتما سألقاك رغم المكابدة والرحلة الطويلة التي أرهقتني، والمكابدة التي أضنتني !!!"
د . علوي عمر بن فريد