الانتقالي، في هذه المرحلة المعقدة، عالق بين أداء "الشرعية" المدعومة من دول التحالف والواقع البائس للناس الذين يستنجدون به.
وعالق بين أهداف الحراك الجنوبي ومجريات عاصفة الحزم (التائهة) وما ستؤول إليه.
وعالق بين خطاب عالي السقف وواقع انخفضت فيه شروط البقاء الإنساني.
أي أنه عالق مرات ومرات في دوائر المفارقات الصعبة.
وبالطبع لا يستطيع أن يضع مقاربة سحرية للخروج منها قبل أن تأخذ الأمور مداها وتتوفر شروط يساهم هو في صناعتها.
وفي الوقت ذاته لا توجد إجابات جاهزة لكثير من أسئلة الراهن الجنوبي.
لكن باستطاعة المجلس تقييم أوراق الضغط بصورة واقعية (وهي كثيرة)، وأن يرتب خطواته على نحو واضح وعملي.
الدور السلمي لا يحتكم ل"قواعد اللعبة"
الجماهير بلا شك حرة وغير مكبلة وتستطيع الضغط على الداخل والخارج من أجل حقوقها وحياتها.. خاصة وأن الانتقالي محكوم ب"قواعد اللعبة" حتى وإن لم يلتزم بها غيره.
كما أن "الحراك الشعبي" يمكن أن يعيد الحيوية إلى الواقع الجنوبي والضغط باتجاه انقاذ الناس من هذا الموت البطيء والمهين دون تعريض المجتمع لأي مخاطر.
إذ ينبغي في كل حال أن تكون سلامة عدن مُقَدَّمة على أي شيء آخر، و"الهم المشترك رقم 1" في هذه المرحلة التي لا تحتمل أي مغامرة من أي طرف.
والقوى المعادية تفهم أن أي شرارة داخل عدن سوف تضع حداً لتطلعات الناس في الجنوب، لأنها ستعيد فرزهم على أسس مختلفة.
لهذا تحاول عبر ترسانتها الإعلامية تسميم الأجواء بغية جر الأطراف في عدن إلى صراعات لا تنتهي.. وهذا لن يحصل ويجب أن لا يحصل.
لا يوجد شعب في العالم جاهز لاستعادة دولة ضائعة أو لبناء دولة "من العدد صفر أو من العدد واحد" دون وجود قوة مركزية تقود وتدافع وتنظِّم وتبني الأمر الواقع تدريجيا بصورة موضوعية.
وقد لا تكون هذه القوة مثالية أو تروق للناس أجمعين.
وهذا بديهي وليس شرطا عليها أن تفعل ذلك، لأن المهم فيها أن تحقق مكاسب ملموسة.
لكن ومن زاوية مقابلة لا توجد منظومة سياسية تستغني عن الفعل الشعبي في زمن الصراعات الوجودية.
وهذا يعني أن الحراك السلمي هو وحده من يعيد الأفق إلى العيون المائلة، والحيوية إلى الأرواح التي امتصتها أجراس الخوف والإعلام المتوحش وظروف البقاء الشاق.
وبما أن الانتقالي وُجد في ظروف حرب وعواصف، بعد أن عجزت المكونات الجنوبية منذ عام 2007م أن تُنتج ائتلافا أو كيانا بحجمه اليوم، فإن عليه أن يحافظ على الورقة الشعبية باعتبارها الأقوى في كل زمان وهي التي أسقطت وتسقط أعتى الأنظمة.
الصورة العميقة
البشر مختلفون في رؤيتهم للحياة وفي إدارة شؤونهم الخاصة وحتى في قضايا بلدانهم المصيرية.
وفي هذا السياق ينبغي إدراك أن الشعب الجنوبي -مثل غيره- ليس كتلة صماء شديدة التماسك، بل أن بداخله مسامات وشقوقا ممتلئة بالهواء والفراغ.. وبالهوى والأهواء المختلفة والمتقلبة أيضاً.
ولا ننسى أن هناك من تستفزه حكاية الدولة الجنوبية، لأن لديه صورة عميقة وثابتة في "قاع" اللا وعي لا يرى من خلالها سوى ذكريات "كل الشعب قومية" أو "كارثة يناير"، دون الإدراك بأن الزمن اختلف والمجتمع اختلف أيضاً.
ولا لوم عليه لأن مثل هذا الحِمل المتكدس يصبح جزءا من القناعات الراسخة في العقل مثل العقيدة، ومن الصعب إزاحتها في أي مرافعات سياسية أو جدل حقيقي، لأن "السيكلوجية" مجروحة أو مضروبة من أساسها.
المصابون بتصلب الصورة الذهنية العميقة وفوبيا الماضي وأصحاب العقائد الحزبية أو عُقَد الهوى المتقلب، جميعهم على موقف سياسي متشابه من القضية الجنوبية، لكن حضورهم ليس غير طبيعي، فهم جزء من واقع متعدد الأطياف.
الجراح والرياح العنصرية
لكن الخطر يأتي ممن يحاول أن ينكأ موضع الجراح لتسيل دماء الحقيقة في مجريات الزيف، وإبراز الجنوبيين وكأنهم شيَع كربلائية يجترون اصطفافاتهم على وقع "يناير" كلما أتت استحقاقات سياسية حاضرا ومستقبلا وبعد ألف عام.. وتغليف صدام المشاريع السياسية والاختلافات الحادة حولها بأثواب المناطقية.
والخطر يأتي أيضاً من تصنيف الناس على أسس "المنشأ الجغرافي" والبحث عن أصولهم الجنوبية أو الشمالية وهو ما ينطوي على عنصرية ممقوتة، لأن الكتل البشرية من الشمال ومن الجنوب اختلطت وتنقلت هنا وهناك خلال تاريخ طويل.
وتطلعات الجنوب لاستعادة دولته لا تنفي حقيقة الوجود المشترك والبقاء المشترك، فهناك روابط التاريخ والدم والمستقبل، ويمكن أن يعاد تجسيد مفاهيمها بصورة أكثر موضوعية وعملية من حكايات الوحدة القسرية أو الاتحاد القهري.
حديث الناس
عدم وضوح موقف دول التحالف من الأوضاع في ما تُسمى (وفقاً لأدبيات الحرب) ب"المناطق الجنوبية المحررة" جعل الأنظار تتجه نحو المجلس الانتقالي لاتخاذ خطوات سياسية شفافة في مخاطبة تلك الدول.
وأن يبذل في الوقت ذاته، وعلى صعيد آخر، جهودا مركزة لاستعادة دور الحراك السلمي الجماهيري.
إذ لا يعني "التفويض" أن ينتظر الجميع (رغم حالاتهم الصعبة) حتى تتحقق أحلامهم دون اعتبار لضرورة الأدوار المختلفة في هذا الظرف السياسي.
وربما فهموا تناولات المجلس ومواده الخطابية الساخنة، خلال فترة التأسيس وما بعدها، وكأنه يقول لهم ابقوا في أماكنكم فإنا لوحدنا ذاهبون.
حديث الناس عن الأوجاع اليومية والبؤس والظلم والخوف أخذ مداه وتجاوزه، وقد حان الوقت للبحث عن معالجات حقيقية تفادياً لأي كوارث قد تصيب "الكل" إذا وصل الأمر إلى مستوى تتساوى عنده الحياة والموت.