د. عيدروس النقيب يكتب:

الشرعية اليمنية.. إذ تلفظ أنفاسها الأخيرة

قانون الموت والفناء والتلاشي قانون أزلي طبيعي صنعته الحكمة الإلهية لحفظ صيرورة الكون وضمان عملية التجدد الحيوي والحضاري، لكن ما ينطبق على الأجسام الحية المفردة إو الأنواع والسلالات، بدءً بالكائنات وحيدة الخلية كالأميبا وغيرها وانتهاءً بالكائنات العملاقة، كالديناصورات والفيلة والحيتان وسواها، يختلف عما يتعلق بالدول والأنظمة السياسية والحضارات حيث إن عوامل اندثار الأخيرة أو بقائها تتعدد وتتداخل وفي أحيان كثيرة يلعب العامل البشري دوراً حاسماً في إطالة عمر الحضارة وحفظها من الزوال وقد رأينا كيف دامت الحضارة العربية الإسلامية أكثر من سبعة قرون وإن تنقلت في مراكز حضارية مختلفة كما تناهز الحضارة الأوروبية الحديثة القرون الخمسة وما تزال تحتفظ بعوامل الديمومة والبقاء بل والتطور والازدهار، رغم الحروب والنزاعات والآفات السياسية التي ارتبطت بمراحل الاستعمار والنازية والفاشية والإميريالية، ويمكن الحديث كثيراً عن حالات متفردة في الحضارات الصينية والهندية والإغريقية القديمة.

ليس هذا موضوعنا، لكنه مجرد مقدمة ضرورية لفهم عوامل وأسباب اضمحلال “الشرعية اليمنية” واقترابها من الزوال.

سبع سنوات مضت على الانقلاب الذي تبوأه تحالف قوات الحوثي مع القوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي كان حينها نصيراً قوياً للانقلاب ولم يتردد حينها عن قول كل ما يسيئ إلى الرئيس هادي والقوى السياسية المؤيدة له في الشمال والجنوب، بغض النظر عما آلت إليه الأمور بعد ذلك من نهايات ربما لم يحسب الرئيس الراحل حسابها في لحظة نشوة إسقاط “الشرعية” من الرئيس هادي.

طوال هذه السنوات السبع جرت أنهارٌ غزيرةٌ  من المياه تحت جسر الحياة وتغيرت مئات المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية وسقطت أنظمة وقامت على أنقاضها أنظمة جديدة في العديد من البلدان، وتغير قادة بعض البلدان ليأتي محلهم آخرون، ورغم فرار قادة الشرعية اليمنية بطرق وأساليب مختلفة لكنها (أي هذه الشرعية) اكتسبت عناصر متعددة لاستعادة الحياة والمضي نحو استرجاع الحق المسلوب من الانقلابيين، بيد إن الشرعية كانت تمضي بخط معاكس لمنطق تراكم عوامل بقائها على قيد الحياة ومن ثم فوزها وانتصارها، وشيئاً فشيئاً بدأت مقومات الحياة تتراجع وتضمحل وتتلاشى حتى اقتربت الشرعية من لفظ أنفاسها الأخيرة ككل كائن حي يستنفد مقومات بقائه على قيد الحياة، وذهابه إلى عالم الغيب.

لقد حصلت هذه ” الشرعية” على الكثير من “الحُقَن” المطيلة للعمر، بدءً بنشوء التحالف العربي “الداعم للشرعية اليمنية”، ثم صدور قرارات الشرعية الدولية المؤيدة لـ”الشرعية”، وانطلاق “عاصفة الحزم” التي جاءت من أجل إعادة “الشرعيين” إلى صنعاء، وبالتوازي مع ذلك جاءت المعارك البطولية التي خاضها المقاومون الوطنيون المتطوعون في الكثير من مناطق الجنوب والشمال، وحققوا (لصالح هذه الشرعية) نجاحات يجب أن تسجل في أنصع صفحات التاريخ.

فلماذا لم تنفع كل هذه “الجُرَع” المنشِّطة والمؤجِّلة للشيخوخة لإبقاء الحياة في جسد هذه “الشرعية”؟

ليس السبب موضوعياً بطبيعة الحال، ولا يتصل بحتمية زوال هذا الكائن المسمى “شرعية”، بل إن الأسباب متعددة لكنها تكاد أن تنحصر في جسد “الشرعية” نفسه، حيث ذهبت “الجُرَع” المغذية والمنشطة إلى الوريد الخطأ، وبدلاً من إعادة الحياة إلى الجسم المستهدف إبقاءه على قيد الحياة وإطالة عمره ساهمت كل “الحُقَن” في التسريع بفنائه، فسوء استخدام الدواء يأتي دائما بنتائج عكسية أهمها استفحال المرض وغالباً الموت الحتمي.

أهدرت “الشرعية ” كل فرص التمسك بالحياة وممارسة الوظائف الحيوية، ولم تستثمر الدعم الدولي والإقليمي والقرارات الدولية التي كان يمكن الاتكاء عليها لصناعة نصر ميداني أو تنموي أو حتى خدمي وإداري، بل لقد تصرف قادة الشرعية كالفتى المدلل الذي يتفاخر برعاية كل الناس له وتركيز أنظار كل العالم إليه ونسي القادة “الشرعيون” أن الدلال الذي حصلوا عليه كان يتطلب إنجاز ما عليهم من واجبات، وأن المجتمع الدولي لن يقاتل نيابة عنهم ولن يبني لهم بلداً هربوا منه واستطابوا العيش المؤبد خارجه.

الأمر الوحيد الذي نجح فيه قادة “الشرعية” خلال هذه السنوات السبع هو تَحَوُّل الكثير منهم من موظفين عاديين يستهلكون مرتباتهم الشهرية قبل نهاية الشهر، إلى أثرياء يملكون المنشآت والعقارات والأسهم والأرصدة البنكية والشركات الاستثمارية، وأصغرهم يمتلك منزلاً فخماً في القاهرة أو اسطنبول أو عمان أو حتى لندن وباريس، بعد أن كان يسكن في صنعاء بالإيجار . . ونحن هنا لا نتحدث عن “القطط السمان” من عتاولة الفساد التاريخي الذين جاءت عاصفة الحزم لتحولهم إلى هوامير وحيتان لا يتسع لها حيز، فالحديث عن هؤلاء يطول ويتشعب.

لقد نشأ جيل جديد من “الفاسدين الشباب” الذين قفزوا على بعض الفاسدين المتوسطين من ورثة النظام السابق، وبمعنى آخر أن الدعم السخي من قبل دول التحالف للقائمين على “الشرعية” ذهب في الاتجاه الخطأ حيث صنع كتلة بشرية من القادة  الغارقين في الفساد مقابل استفحال الفقر والجوع والوباء ورداءة الخدمات، بل وغيابها، واسترخاء الفيالق القتالية وذوبانها مقابل استئساد الطرف الانقلابي وتمدده وتحقيقه المزيد من المكاسب على الأرض، وبالتالي لقد خسرت هذه الشرعية المعركة أخلاقيا ومعنويا وسياسيا قبل أن تخسرها عسكريا.

وحتى المناطق التي حررها أبناؤها المقاومون المتطوعون من الشباب ورجال القبائل في مأرب والجوف والبيضاء والحديدة وتعز، كما في بيحان بمحافظة شبوة الجنوبية، هذه المناطق التي تحررت بجهود أبنائها المقاتلين المتطوعين الأبطال قام  جيش “الشرعية” “الوطني” بسرقة هذه الانتصارات ثم أعاد الأراضي للحوثي وسلمه إياها بلا مقاومة  ومكّن قواته من التوسع فيها أضعاف وأضعاف ما كانت قد خسرت.

لقد فقدت “الشرعية” كل ممكنات البقاء على قيد الحياة السياسية والأخلاقية والوطنية، فلا هي قدمت الخدمات للمناطق المحررة ولا هي نفذت برامج إعمار او تنمية ولا هي حمت السكان من الأوبئة والآفات، ولا هي نجحت في معركة عسكرية واحدة، ولا حمت الأراضي والمدن والمحافظات التي تحررت على أيدي أبنائها، وحتى مرتبات الموظفين الحكوميين عجزت الشرعية عن توفيرها في حين يتقاضى كبار المسؤولين الحكوميين مرتباتهم بانتظام وبالعملة الصعبة آخر كل شهر، وهو ما يعني أن الكائن المسمى “شرعية” قد انتقل من قائمة الأحياء إلى عداد الموتى ولم يتبقَّ إلا مراسيم التشييع والدفن، وقد قيل قديماً “كرامة الميِّت دفنه”.

لقد مل العالم الاستماع إلى المعزوفة المملة التي تقول أن “الشرعية” هي صاحبة الأحقية في إدارة البلاد، ويبحث اليوم عن بدائل تستجيب للحقائق القائمة على الأرض، وهي الحقائق القابلة للنمو والاستمرار إذا ما قام أصحابها بتعديل خطابهم السياسي والكف عن ثقافة الإكراه ومزاعم الاصطفاء والولاية والوصاية، وسيكون من المؤسف أن يتم استبدال أصحاب “الشرعية” بمن لا يختلف عنهم سوءً وقبحاً لكن العالم ليس مؤسسة خيرية ليتبرع للفاشلين بالنجاح نيابة عن أنفسهم.

ولا بد من الإقرار أن موت الشرعية سيترك مجموعة من المخلفات والخرائب وأكوام الحطام التي سيكلف كنسها والتخلص منها الكثير من التضحيات ووسائل التنظيف والإتلاف والتجفيف والدفن وإعادة العزق والحرث والغرس والري لاستزراع البدائل القابلة للحياة.