إبراهيم الجبين يكتب:

ماذا يعني نسف "كرسي السنة" في سوريا؟

ألغى رئيس النظام السوري بشار الأسد منصب المفتي العام للجمهورية والذي كان يشغله حتى وقت قريب أحمد بدرالدين حسون، وأولى مهام الإفتاء إلى مجلس كان قد أسسه تحت مسمى “المجلس الفقهي العلمي” مشكّل من عدد من الطوائف والأقليات ويضم بين أعضائه ممثلين عن المسلمين السنة.

وهي خطوة قد تبدو للبعض أقرب إلى الإجراءات الأتاتوركية التي تقصّدت علمنة الدولة بالقوة، لولا العامل الإيراني الذي لا يخفي نفسه في المشهد السوري، والذي حرص على تطبيق برنامج للتشييع الممنهج تم تطبيقه في كافة الأراضي السورية التي وصلت إليها ميليشيات إيران، وكان للمفارقة المفتي حسون أحد أبرز داعمي هذا البرنامج الذي أفضى إلى الإطاحة به.

 مفتي الجمهورية أو المفتي العام كما يسميه المؤرخون السوريون لم يكن مخصصاً للسنة وحدهم عبر جميع المراحل التي مرّت بها تلك القطعة المتبقية من بلاد الشام. بل كان يحمل دلالة رمزية على الإسلام وكان في عنقه ومن ضمن مهامه تنظيم شؤون بقية الطوائف بالاستناد إلى مرجعياتها الدينية دون تمييز. وكان هذا المنصب يخضع لعملية انتخاب تجري بين علماء سوريا، فيطرح اسم واحد منهم أو أكثر، ويستفتى عليه بقية العلماء لما يرون فيه من كفاءة.

الإيرانيون بدورهم، لا يمكن لمشروعهم في سوريا المضي قدماً من دون إزاحة الخيمة الإسلامية السنية عن طريقه

ولم يكن للمفتي العام في زمن ما بعد وصول البعث إلى السلطة ومن ثم التحولات التي طرأت على طبيعة نظام الحكم، من صلاحيات تذكر، ولا بوسعه اتخاذ قرارات منفصلة عن الدولة والحكومة، إنما كان للكرسي الذي يشغله تأثير كبير على بنية المجتمع وتوازنه. وقد سبق حسون على هذا المنصب الشيخ أحمد كفتارو أول من حاول زج السياسة في عمل المفتي حين تدخل في انتخابات البرلمان السوري في الخمسينات من القرن الماضي بسبب خلافات مع زملائه من المشايخ، قبل أن ينضم إلى حافظ الأسد في مسيرة طويلة ستوصله إلى كرسي الإفتاء العام، وكانت نظريته التي عرف بها تقول بالحرف “حتى لو خرجت الدولة حسب عقيدتك عن شيء من الإسلام فلا يجوز أن تقوم بثورة ضدها”.

قبل كفتارو كان يشغل كرسي المفتي العام أبواليسر عابدين الطبيب الذي مارس الطب ثلاثين سنة قبل أن يتجه نحو العلوم الشرعية، ويدرّس أصول الفقه في كلية الحقوق بجامعة دمشق. وقد دفع ثمن مواقفه من الحكم الاستبدادي حين رفض منح فتوى تبيح لجمال عبدالناصر تأميم الأملاك الخاصة، فيما أصر عبدالناصر على الحصول على تلك الفتوى وقال لمساعديه “أريدها من ابن عابدين”، فردّ المفتي العام بالقول “ليس لك إلا هذه الفتوى”. وقد أعطى بموقفه ذاك وسيرة حياته مرتبة شرف خاصة لكرسي المفتي العام، فهو الذي شارك في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين في شبابه، وقاتل وتبرع بأمواله لصالح البسطاء من السوريين.

هذا الظل العالي للمفتي بقي مقدّراً مبجلاً من عموم السوريين، مانحاً للعمامة العلمية مكانتها وهيبتها، حتى في الظروف التي استجدت لاحقاً حين أخذ النظام يستخدم موقع الإفتاء للسيطرة السياسية، إلى أن أوصله إلى الحالة التي ظهر عليها حسون طيلة سبعة عشر عاماً.

يحاول الأسد تقديم معادلة جديدة للظهور بوجه جديد، حين يهدم حضور الرمزية التي يمثلها المفتي العام، ظناً منه أن القصة مركزية في ما يتعلق بوعي المسلمين في سوريا، وأنه بضرب تلك المركزية وتفتيت الإفتاء، إنما يخلي الساحة لقيادة المجتمع من جديد بعيداً عن تشويش العمامة. إلا أنه يدخل سوريا في فراغ أشدّ خطورة حين يترك الغالبية نهباً للتيارات التي لم تنته بعد. وصحيح أن حسون لم يكن يختلف في نظر الكثير من السوريين عن أي موظف مدني أو عسكري داخل النظام، غير أن هؤلاء جميعاً كانوا يميزون بين منصبه وسلوكه ومواقفه، وسرعان ما أدركوا حين تم تكليفه بمهمته الأخيرة والإجهاز على كرسي الإفتاء العام، أنهم سائرون إلى فراغ.

إعادة هندسة الحياة الدينية في سوريا مشروع تشتغل أطراف عديدة عليه، ليس بالضرورة أن تتقاطع رؤاها رغم تحالفها العسكري؛ الروس والإيرانيون والأسد، ولكل طرف من هؤلاء تصورات تخدم مصالحه، فالروس الذين يعبرون عن قلقهم من سوريا سنية، كما صرّح أكثر من مسؤول رفيع خلال الأعوام الماضية، مثل رئيس الوزراء الروسي السابق ديمتري ميدفيديف الذي قال في حوار أجرته معه صحيفة “هاندلز بلات” الألمانية إنه “يجب الحؤول دون وصول المسلمين السنة إلى السلطة في سوريا؛ لأنهم سيبدأون بقتل العلويين”. وكذلك وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أثارت تصريحاته غضب الدول العربية ودفعت مجلس التعاون لدول الخليج العربي إلى الخروج ببيان على لسان أمينه العام آنذاك عبداللطيف الزياني ينتقد قول لافروف إن “دولاً في المنطقة تمارس ضغوطاً من أجل إقامة نظام حكم سُني في سوريا. ونحن لن نسمح بذلك”، قبل أن تهاجم أغلب القوى العربية والإقليمية تصريحات لافروف بشأن المخاوف من ضغوط في المنطقة لإقامة نظام سني في حال سقط النظام السوري برئاسة الأسد.

مفتي الجمهورية كان يحمل دلالة رمزية على الإسلام وكان في عنقه ومن ضمن مهامه تنظيم شؤون بقية الطوائف بالاستناد إلى مرجعياتها الدينية دون تمييز

الإيرانيون بدورهم، لا يمكن لمشروعهم في سوريا المضي قدماً من دون إزاحة الخيمة الإسلامية السنية عن طريقه. أما الأسد فيفضّل المجلس الفقهي الذي أسس له وهو بمثابة قيادة قطرية دينية جديدة، تسمع وتطيع. ويرى الخبراء أن فتاوى ذلك المجلس لن تكون كما يريد السنة السوريون فهم مجرد أعضاء في مجلس يضم لفيفاً من الطوائف، وبذلك تكون مسألة الأكثرية قد انتفت تماماً وأزيحت من هواجس الأسد، ليتم استبدالها بما يسميه البعض “فقه الواقع” الذي سيجد الحلول حسب توافقية المجتمعين في دائرة المجلس الضيقة، ووفقاً لمصالحهم لا حسب تواجدهم وكثافتهم في المجتمع السوري.

كل ذلك يقود إلى تغيير جذري في الهوية السورية يجري على قدم وساق، عروبتها وإسلاميتها، يترافق مع تيه عام تعيشه نخب المعارضة ونخب النظام معاً، ليصل الجميع إلى افتراق نهائي يطبق على ما تبقى من معنى سوريا كدولة ومجتمع وكيان، كما أطبق على العراق، وسط غياب عربي إسلامي أكثر فداحة مما يدور خلف أسوار دمشق.