إبراهيم الجبين يكتب:
هل سيستفيد الأسد أم يتضرّر من التطبيع العربي والتركي معه؟
لم تهدأ بعد سَوْرَةُ الغضب التي تسببت بها تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والتي أشار فيها صراحة إلى نية حكومته التواصل مع النظام السوري من أجل ما تمت ترجمته بتعبير “مصالحة” بينما قصد الوزير “اتفاقاً” بين كل من بشار الأسد ومعارضيه.
ولم تكن الكلمة المذكورة هي وحدها المتسبب في الانزعاج السوري من تغير الموقف التركي، خاصة وأن الخارجية التركية سارعت إلى إصدار بيان توضيحي، والوزير نفسه عاد وتحدث عمّا أراده من الكشف عن هذا الموقف الجديد، مبيناً أنه وعلى الرغم من الانفتاح التركي على التنسيق الأمني مع الأسد، وعلى الرغم من رغبة تركيا باتفاق وتفاهم يجمع السوريين وفق قرارات الأمم المتحدة إلا أن النظام السوري حسب الوزير جاويش أوغلو لا يؤمن بالحل السياسي.
أعاد هذا الجدل الحاد الذي وصل إلى خروج مظاهرات سورية غاضبة في العشرات من المدن والقرى ضرورة البحث عن جواب على السؤال الذي لم تطرحه المعارضة على نفسها، وهو ماذا لو قامت جميع الدول التي قاطعت الأسد بالتطبيع معه؟
في وقت مبكر ومع العام الأول للانتفاضة السورية ضد النظام، كان شطر من المعارضين السوريين مثلته حينها هيئة التنسيق الوطنية التي تمثل المعارضة التقليدية التي بقيت تعمل في الداخل السوري وفق معادلاته، ترفض مقاطعة الأسد، وقدم وفد منها إلى الجامعة العربية في القاهرة للتعبير عن الاحتجاج على القرار العربي بطرد سوريا من الجامعة فرشقه المتظاهرون السوريون بالبيض، وكان هناك مناخ عام يعتقد أن مقاطعة الأسد تعني رفع الشرعية عنه، وهنا كانت الخديعة الأولى.
الأسد بقي يشكل تهديداً وحلاّ في الوقت ذاته للأتراك وللعرب الذين كانوا يعرفون إن بحثوا عن أيّ شخصية متطرفة فإنهم سيجدونها على الأراضي السورية، حيث الأسد
كان أول المستفيدين من المقاطعة العربية والدولية للنظام السوري، النظام السوري نفسه، الذي وجد نفسه في فرصة طويلة يختلي بها مع البلاد لا حسيب ولا رقيب عليه في فتح أبوابها أمام الإيرانيين والروس والأفغان واللبنانيين والميليشيات الكردية المستجلبة من العراق وتركيا وإيران وأرمينيا لاستباحتها شمالاً وجنوباً.
ولكن قبل الأسد، كان اللاعب الإيراني الذي يستهدف الدولة العربية بمفهومها ككيان وعلاقات وسيادة ومؤسسات، يحرص كل الحرص على أيّ خطوة تهدم تلك الدولة، ومن بين الدول التي كانت على قائمته، سوريا، وحين يخرج العرب والأتراك، سيملأ الإيرانيون محلهم على الفور. الأمر ذاته فعله في لبنان والعراق قبل الجميع.
المقاطعة التي احتفلت بها إيران، كانت انتصاراً وهمياً تم منحه للسوريين الضحايا، ومكافأة للنظام، علاوة على كونها فراراً وتهرّباً علنياً وصريحاً من المسؤولية الملقاة على عاتق تلك الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية مع الأسد وفي الوقت ذاته لا تستطيع إقناعه بالتوقف عن التدمير والقتل، فكان الحل الأسهل إغلاق السفارات والمغادرة.
لكن جميع الدول التي قاطعت النظام السوري، بقيت تحافظ على التنسيق الأمني معه، وهو الدور الذي حرص على التمسك به من قبل العام 2011 وهو استثماره الأكبر في خارطة العالم، الدور الذي لا تستطيع معارضته القيام به، حيث يمكنه القيام بمهام لا بديل له عنها، في مواجهة الإرهاب وفي ترتيبات المنطقة والتهديدات المحيطة بها، وهكذا تمكّن من المحافظة على ورقته الرابحة طيلة الأعوام الماضية، أما العلاقات الدبلوماسية فهي تحصيل حاصل ولا تقدم ولا تؤخر، فتنسيقه الأمني مع الأميركيين كان في ذروة معارضته لهم، وخلقه الحاجة إلى التواصل معه بقيت مسألة يتقنها جيداً، بعد غزوهم العراق 2003، حتى تمكن من جلب وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول إليه في دمشق الذي قال للأسد حينها إن أميركا باتت دولة جارة وأن عليه أن يتفهم هذا وهو يرسل قوافل الإرهابيين عبر الحدود السورية – العراقية، لكن في الوقت ذاته كان الأسد يكسب اعتراف واشنطن أن عليها التنسيق معه في ملف أمن العراق.
أمن تركيا أيضاً برع الأسد في اللعب فيه، حتى فتح الباب أمام عدوها الأول حزب العمال الكردستاني ليتحول من ورقة تركية إلى ورقة بيد الأسد وعلى أرضه، واعتقدت تركيا أنها تكسب بنقل العدو إلى خارج حدودها وحصره في الأراضي السورية، غير أن هذا العدو كانت لديه مهمة استثمره فيها الأميركيون لمحاربة تهديد أمني آخر نجح الأسد في الاستفادة منه؛ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” والذي يعرف السوريون في كل المحافظات السورية كيف عادت عناصره إلى مواقعها في الخدمة في مؤسسات النظام السوري بعد إسدال الستار على مسرحية صعود التنظيم وانهياره.
بقي الأسد يشكل تهديداً وحلاّ في الوقت ذاته للأتراك وللعرب الذين كانوا يعرفون إن بحثوا عن أيّ شخصية متطرفة فإنهم سيجدونها على الأراضي السورية، حيث الأسد.
لا أحد يستطيع فرض "مصالحة" أو "تطبيع" مّا مع الأسد على السوريين، فهذا خيارهم وموقفهم وبوسعهم تحمّل مسؤوليته، وبالمقابل فإن آخر السعداء بهذا الانفتاح التركي والعربي وربما الدولي على الأسد، سيكون الأسد نفسه
كان هذا الاستثمار الطويل في الأمن والمقاطعة يعمل بنجاح خلال الأعوام الماضية، وهو ميزان قادر على الصمود أكثر، لولا أن الشرق الأوسط أصبح في حاجة إلى الاستقرار اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، والاستقرار يتطلب حلحلة القضايا العالقة، وفي مقدمتها قضية اللاجئين السوريين في دول الجوار ومن بينها تركيا، وهي القضية التي تفاقمت العنصرية حيالها مؤخراً بصورة باتت تؤثر على مصالح الحكومة التركية في الداخل، في الوقت الذي لم تعد تكفي فيه الوعود بإعادة اللاجئين السوريين إلى الشمال السوري في ظل وضع غير مستقر هناك.
تتعرض تركيا إلى ضغوط كبيرة لحل هذا الملف، ضغوط من داخلها أولاً، وليس أدل على ذلك من تصريح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية حياتي يازجي، النائب الذي لم يخرج هذه المرة لنفي تصريحات الوزير جاويش أوغلو بل لإيضاحها أكثر، فكشف أن العلاقات مع دمشق قد تصبح علاقات مباشرة بعد أن تتطور وترتقي إلى مستوى أعلى.
وفي مقابلة على صحيفة “خبر غلوبال” أشار يازجي إلى وجود “عدة جوانب لحل المشكلات غير أن الحوار يشكل الجانب الأهم لحل المشكلات بالعلاقات الدولية“، مضيفاً قوله “إما حوار بشكل مباشر أو غير مباشر. حتى اليوم كان الحوار يتم بطريقة غير مباشرة عند مستوى محدد. واليوم ارتفع هذا المستوى بعض الشيء والمناخ الذي سيتشكل بارتفاعه أكثر في المستقبل سيسهم في الخروج من هذا المستنقع القائم في سوريا منذ 11 عاما“. وعن احتمال عقد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأسد، قال يازجي إنه لا يستطيع أن يجزم بعدم حدوث هذا الأمر، لافتا إلى أن الأمر سينطلق من مستوى معين وقد يتطور مستقبلا.
أتى ذلك مدعماً بتصريحات من حليف أردوغان، دولت باهتشيلي رئيس حزب الحركة القومية الحليف لحزب “العدالة والتنمية”، التي وردت في بيان صادر عن الموقع الرسمي للحزب قال فيه باهتشيلي إن “خطوات تركيا في سوريا قيّمة ودقيقة، والتصريحات البنّاءة والواقعية لوزير خارجيتنا حول إحلال السلام بين المعارضة السورية ونظام الأسد هي متنفّس قوي للبحث عن حل دائم”.
وأضاف “لا يجب على أحد أن ينزعج من هذا”، وأوضح أن رفع محادثات تركيا مع النظام السوري إلى مستوى الحوار السياسي، في سياق إخراج التنظيمات الإرهابية من كل منطقة توجد فيها، هو من أهم القضايا المطروحة على الأجندة السياسية في المستقبل.
لا أحد يستطيع فرض “مصالحة” أو “تطبيع” مّا مع الأسد على السوريين، فهذا خيارهم وموقفهم وبوسعهم تحمّل مسؤوليته، وبالمقابل فإن آخر السعداء بهذا الانفتاح التركي والعربي وربما الدولي على الأسد، سيكون الأسد نفسه، فللتطبيع استحقاقاته كما للمقاطعة مكاسبها، وهو ليس مستعداً لدفع تلك الاستحقاقات، لا يستطيع فعل ذلك، فالإيرانيون سيمنعونه من الإقدام على هكذا خطوة تقوّض ما نسجوه على مدى طويل.