د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

رسالة الى أبي والى كل شهداء الوطن

أبي اكتب اليك ولكل شهداء الوطن ممن قضوا في الحروب والصراعات في الجنوب ظلما وعدوانا منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم وأقول : لقد ذبلنا من الفرقة وسحقنا الألم لفراقكم و نسينا طعم الفرح والابتسامة وقد أصابنا الوهن لأنّكم رمز قوتنا وفخرنا؛ غادرتم حياتنا ونحن بأمس الحاجة لنصائحكم وتوجيهاتكم ونحن نعيش اليوم في ظروف اختلطت فواصلها!!
زرعتم فينا أبجديات الاخلاص والصدق والتعاون والتسامح والعمل والكرم والعطاء، بل وبذرتم في حدائق قلوبنا حب الوطن والانتماء ولم نتمكن حتى من وداعكم ولكنكم بقيتم في خلايانا وقلوبنا فالشهداء مثلكم لا يرحلون بل يبقون في ذاكرة الوطن رمزا أبديا لكل حر شريف.


نعم الشهداء وإن رحلوا بأجسادهم لكنهم سكنوا القلوب بقدرهم، وتركوا من الذكريات قناديل تضيء طرقات المستقبل لأبنائهم وأحفادهم، وثقناها بحبر من دمائنا !!َ


أبي : كنت مترددا بأن أخبرك عن واقع أمتنا اليوم، حيث تمزقت تضاريسها بخريطة استعمارية جديدة بقالب مختلف لنفس المحتوى اليوم، برهانا على أن شعارات الوحدة مجرد أناشيد لفظية، والجديد يا والدي تعدد الأعداء من جِلد الذات، فبعد أن كانت اللغة والدين والمصير يربطنا، ومحاربة عدونا أولويتنا، أصبحنا نحارب بعضنا ونشهد على أرض الوطن صراعات دينية وعرقية وعنصرية وسياسية يفتقر قاموس العروبة والوطنية الحقة لمفرداتها .
أبي الغالي : لقد قضيت نحبك مثل آلاف من أبناء الوطن وكنتم ضحية صراعات وحروب وفتن كقطع الليل ما زالت مستمرة !!


بعد رحيلك تقضم السنين من عمري وعمر الزمن وتبقى ذكرى موتك هاجسا مريرا يدق ناقوس حياتي فقد لفظت أنفاسك الأخيرة وأنا بعيد عنك في بلاد بعيدة وحرمتني العصابات الماركسية حضور قبرك عندما وسدك بعض الأقارب القبر في ليلة مظلمة ،وعندما وصلني خبر اغتيالك شنق الكتمان صمتي وتوالت شروخ أعماقي وأبت إلا أن تنزف دما ‏وإنها لذكريات ولكن لا تزال ترسباتها وارتداداتها في أعماقي، وما كنت لأكتبها لولا الذي أيقظها فأبكاني وسأبتدئ بأيامي من أولها لا لأنها من الأحزان جاءت بل لأنها من الأحزان انتهت.

فبالأمس ‏وقبل أن تنطفئ قناديل الأمل من سماء حياتي وقبل أن تحرقني نار الفراق حيث آثرت التضحية لإسعاد كل منا بغدير الحرمان فجعلتني من جديد طفلاً وسط أمواج الخوف وانتحرت طفولته وطمست معالمها الهموم وبات لا يعرف بحضن من ‏يختبئ منذ لحظة مواراة جسدك الطاهر التراب ، بكيت الفراق وفقدت حنان ودفء الأحضان وعذوبة المناداة، فكيف أنسى عندما اسلمت روحك للسماء وغادرت دنيانا، ‏فأقبلت بوجهي على الأحزان أجوب خضم الحياة القاسية وحيدا يتيما يحتويني الاحتراق ويثقلني ‏الانكسار في زمن حب الذات، وأعترف لك اليوم ، انت الساكن في الفردوس بأن شبابي الغض ذهب إلى عالم آخر غير الذي ألفته في حياتك ومعك عندما كنت تعاملني كشقيق لك تحبه وليس مجرد ابن تفخر به مهما كبرت مع الأيام وارتقيت، وبعد فراقك حزنت عليك حتى تقرحت ‏مشاعري وتألمت حتى أشفق علي الألم لكنني سرت في الحياة خطوة خطوة ‏ وتجرعت كأس الألم قطرة قطرة ‏ ورضيت بما كتبه الله لي من شتات أحزاني في قاع أعماقي وهربت بها عن أعين البشر اجوب ‏فيافي الغربة وأخوض في وحل النسيان وقفار السلوى. وأدركت عندما فقدتك أن الحياة قد علمتني الشموخ عند الشدة والصمود في وجه المحن، علمتني الحياة أن لا أبوح إلا لقلمي ولا أستعين إلا بخالقي فليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأب.


أبي الغالي : لقد كنت دوما تحب أخي الأصغر أحمد الذي كان يشبهك وبينكما خصال مشتركة كنت تدركها وحدك ولم أدركها أنا وأخي الأوسط محمد وكنا نعتقد أن أحمد وحده المدلل ونغار من حبك الشديد له ولكننا نكتم غضبنا ولكن بعد أن كبرنا أدركنا لماذا كنت تميز أحمد عنا !!


اطمئن يا أبي ونم قرير العين في قبرك وتأكد أننا لن نخيب أملك فينا وسنظل يدآ واحدة لن نفترق مهما تعالت أعاصير الزمن وبراكينه كما أوصيتنا، والأحفاد ترجموا أمانيك بالتفوق ومنهم من ورث مهنة الآباء، يفخرون بمسيرتك وكيف لا وأنت مثلنا الأعلى فنم قرير العين وصدق من قال من خلف ما مات .
د . علوي عمر بن فريد