د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

لماذا تخلينا عن هويتنا الوطنية؟.. (الحلقة الأولى)

تعريف الهوية:

الهوية هي الجذور والانتماء والارتباط بالأرض والتاريخ، وليست بالضرورة العرق والسلالة، فالهوية هي تاريخ مشترك يجمع كل الأعراق والأطياف داخل المجتمع، الذي تنطبق عليه الخصوصية والقواسم المشتركة التي يلتقون في ظلها.
من هنا تشترك تلك المجتمعات في خصائص معينة تربطها معاً، بما في ذلك القبائل العديدة والمجتمعات الحضرية، كلها تجتمع في النهاية في كيان واحد مهما تباينت وجهات نظرها، يجمعها حب الوطن والولاء والدفاع عنه.
ولا شك أن الجنوب العربي هو مسمى شامل يجمع كل السلطنات والإمارات الجنوبية منذ مئات السنين، ويميزها عن غيرها في الجوار الإقليمي، وهو توصيف جغرافي وتاريخي للمنطقة.
وتعرّف الموسوعة العربية العالمية الوطنية بأنها: تعبير قديم يعني حب الفرد وإخلاصه لوطنه الذي يشمل الانتماء إلى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ والتفاني في خدمة الوطن، وهذا يعني أن الهوية هي مجموعة السمات والخصائص المشتركة التي تميز أمة أو مجتمع أو وطن معين عن غيره، ويعتز بها، وتشكل جوهر وجوده وشخصيته. ومكونات الهوية هي:
-موقع جغرافي
-ذاكرة تاريخية وطنية
- حقوق وواجبات مشتركة
- اقتصاد مشترك

الهوية القبلية:
عرفت الهوية الجهوية والقبلية منذ فجر التاريخ، ورغم أن العرب الذين سكنوا الجزيرة العربية ينحدرون من أصول عدنانية في الشمال وقحطانية في الجنوب، فقد لازمتهم تلك التعريفات بعد الإسلام وأثناء الفتوحات، إلا أن الإسلام هذّبها وخفف من حدتها، ورغم ذلك فقد كانت تلك القبائل العربية في عصر الفتوحات، سرعان ما تعود وتنحاز إلى أنسابها وأعراقها، رغم أنها تقاتل تحت الراية الإسلامية، فكانت تشكيلاتها القتالية تحت رايات زعمائها وقادتها، لبث روح الحماسة فيها وتقاتل جنباً إلى جنب. والقبائل في الجزيرة العربية طوال تاريخها ومنها قبائل جنوب الجزيرة العربية، كانت طوال تاريخها تأبى الخضوع للغزاة والطامعين منذ الغزو الحبشي لليمن، حيث كانت تلك القبائل عصية على الغزاة ولم تخضع للأحباش والأتراك وحتى الإنجليز الذين تسللوا تحت مسمى تحالفات تاريخية، عقدوها مع زعماء تلك القبائل، إلا أنها ظلت متمسكة بهويتها الوطنية في إطار القبيلة التي كانت تمثل الدولة المصغّرة في تلك الفترات التاريخية، التي انعدمت فيها سلطة الدولة المركزية أو المحلية. وبقيت تلك المجتمعات القبلية تحتكم لسلطة القبيلة وأعرافها وتقاليدها، ومن ذلك بدأت تتشكل ملامح الإمارات والسلطنات في الجنوب، مرتكزة على النظام القبلي في ولائها وقوة نفوذها في محيطها، وشكلت التضاريس والخوانق الجبلية فواصل وموانع جغرافية لكل واحدة من تلك الإمارات تمنع التمدد والهيمنة من القبائل الأخرى، وكلما كانت الأرض منبسطة وسهلية، سهل غزوها، أما إذا كانت منيعة وجبلية فيصعب غزوها مثل العوالق ويافع!!
وقد تشكلت ملامح الهوية الوطنية لسكان المناطق الجنوبية من خلال الاثنية المشتركة والمذهب الواحد (الشافعي)، وهذه القواسم المشتركة هي التي شكلت أساس مقاومة التوسع والنفوذ الذي ظهر في عهد الدولة القاسمية، في عهد المتوكل اسماعيل عام 1069م، الموافق 1685م. عندما تدخل بحجة مساندة السلطان الكثيري وإعادته إلى حكم السلطنة الكثيرية إبان خلافات البيت الكثيري على الحكم, ثم اجتاح بجيوشه مناطق الجنوب الأخرى, ونفذ عماله وجنوده أعمال القمع والتنكيل بأبناء الجنوب, بل ووصل به الاستبداد إلى العمل على تغيير ملامح الهوية الوطنية للجنوب من خلال نشر المذهب الزيدي في حضرموت, وقد نهض سلاطين الجنوب واجتمعوا في يافع "القارة" وهم:
1- سلطان يافع العليا - صالح بن أحمد بن علي هرهره.
2- سلطان يافع السفلى - معوضه بن محمد بن عفيف.
3- سلطان العوالق العليا - صالح بن منصر العولقي.
4- أمير حالمين - قاسم بن شعفل الحالمي.
وقاموا جميعاً بثورة شاملة في كل مناطق الجنوب، تمكنوا خلالها من طرد جيوش الإمام وإخراجها حرباً، وإعلان استقلال مناطق: عدن ولحج عام 1092هـ، وباقي سلطنات الجنوب بالكامل. أما عدن ولحج فقد بقيت تحت الحكم ألإمامي حوالي 38 عاماً فقط, أما باقي دول الجنوب لم تخضع له إلا لمدة 28 عاماً فقط, وبعد خروج قوات الإمام من الجنوب, عادت الإمارات مستقلة كما كانت من قبل عصر الدولة الحديثة التي بدأت السلطنات الجنوبية تشكل إداراتها الحديثة في إطار سلطة الدولة العصرية الحديثة, وقد ظهرت تلك الملامح منذ الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي, ومع انتشار التعليم والتنوير بدأت تظهر ملامح الحكم المدني الذي يجمع بين الحداثة والتنوير, وترسيخ الهوية الوطنية وتناغمها مع الشيم والأعراف والتقاليد الأًصيلة, حيث تلتقي جميعها مع المرجعية الدينية والمذهبية التي تحسم كافة الخلافات الطارئة في تلك المجتمعات.
الرابطة تتبنى الهوية الجنوبية:
منذ بداية تأسيسها في 29 ابريل 1951م، تبنت رابطة الجنوب العربي في ميثاقها وأدبياتها (الهوية الوطنية للجنوب العربي) والمكونة من إمارات وسلطنات الجنوب وولاية عدن، وعندما نهضت الرابطة بهذا الدور الريادي المبكر في تأكيد وترسيخ الهوية الجنوبية، عانت الكثير من المظالم وحملات التشنيع من جهات عديدة، ولم يكن تبنيها للهوية الجنوبية من فراغ، بل كانت تنبثق عن رؤية مستقبلية ثاقبة لنخبة من صفوة المثقفين الجنوبيين، والذي يهمنا في هذا السياق أن الرابطة قد ركزت على مسألتين هامتين:

1- تشكيل وتحديد ملامح الهوية الوطنية "الجنوب العربي" من خلال التسمية التي تبنتها.
2- تبنى فكر المقاومة السلمية دون اللجوء إلى العنف لإخراج الإنجليز من الجنوب.

الأحزاب القومية والتفريط:
مع ظهور العديد من التنظيمات السياسية بعد الثورة اليمنية عام 1962م، فقد أعلن عن تشكيل الجبهة القومية التي أطلقت على نفسها مسمى:
1- الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل.
2- دخول أبناء اليمن تنظيم الجبهة القومية منذ تأسيسها وهم كثيرون، ولعل أبرزهم - عبد الفتاح إسماعيل، الذي وصل إلى أعلى الهرم في الحزب (الأمين العام)، والذي تحول فيما بعد إلى مسمى (الحزب الاشتراكي اليمني). وهذا الحزب كان يعرف سابقاً بـ (الجبهة القومية) التي كانت أول فصيل يتخلى عن الهوية الجنوبية منذ اختطافها لثورة القبائل في ردفان، التي جيّرتها باسمها وأعلنتها في 14 أكتوبر عام 1963م لصالحها مدعومة من القوات المصرية والحكام الجدد في صنعاء.
وقد تبنت الجبهة القومية أفكاراً وسياسات وأجندات خارجية، وبداية تدثرت بعباءة الوطنية والعروبة والتحرير وغيرها من الشعارات البراقة الخادعة، التي كانت تروج لها الدعاية الناصرية آنذاك، فانخرط المئات والآلاف من أبناء الجنوب في تلك الجبهة التي أحدثت انقسامات وانشقاقات خطيرة في الجنوب بين أبناء المجتمع الواحد.
ومع ظهور العديد من الأحزاب السياسية الأخرى في الجنوب مثل: جبهة التحرير وغيرها من التنظيمات السرية، توسعت الفجوة في البنية المجتمعية الجنوبية، وانتشرت الأحقاد والكراهية وأعمال الاغتيالات للكوادر الوطنية والعمالية في عدن وفي وضح النهار.
الهوية هي الأمان الذي افتقدناه:
في الستينات كان الجنوب ينعم بالأمن والأمان والسلام والاستقرار, وكانت حاضرته (عدن), درة مدن شبه الجزيرة العربية, كان يتنقل فيها الوزراء في حكومة الاتحاد أو حكومة عدن المحلية بين مدينة الاتحاد (الشعب حالياً) لاحظوا الاسم, وبين كريتر والمعلا والتواهي والبريقة والشيخ عثمان وخور مكسر في سياراتهم الخاصة دون حراسة, مثل المكاوي والبيومي وباهارون وكذلك وزراء في حكومة الاتحاد ومنهم وزير الخارجية الشيخ/ محمد فريد العولقي, الذي كان يذهب إلى كريتر العديد من المرات أسبوعياً بمفرده, ولا يعود إلا في المساء, وكان يقود سيارته المرسيدس بنفسه دون حراسة, رغم أن لديه أكثر من 10 حراس من العسكريين, واليوم أين الأمان الذي افتقدناه عندما فرطنا في هويتنا؟, فرطنا في أمن الجنوب واستقراره, اليوم وفي ظل الوحدة الميمونة لا يأمن المواطن العادي على حياته ناهيك عن مدير إداري والذي لا يجرؤ حتى على الخروج بسيارته دون حراسه!!.
إعلان دولة الجنوب:
عندما تمت الصفقة بين بريطانيا والجبهة القومية في 30 نوفمبر عام 1967م، وسلمتها الحكم بدون تعويضات، وأطلقوا على الجنوب مسمى (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)، وهنا لا يفوتني أن أذكر موقفين يرتبطان بهذه التسمية: الأول:
-عند زيارة محمد علي هيثم وزير الداخلية آنذاك لمنطقة العوالق عام 1967م, والتي قابل أثنائها وجهاء المنطقة ومنهم الشيخ صالح بن سالم القروة الباراسي, الذي قال للوزير:
لماذا اخترتم هذا الاسم؟ (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)؟ فاندهش الوزير من سؤاله.. ولم يجب، فقال الشيخ:
- أخشى أن يأتي اليوم الذي يطالب فيه الأب بابنه يا سعادة الوزير!!
والموقف الآخر.. عندما بدأت تتردد شعارات الوحدة اليمنية بين اليمن والجنوب، قال الشيخ عمر بن أحمد بن صالح بن فريد، هذا الزامل في تجمع قبلي حاشد في العوالق:

يا محسن العيني تبانا لتحد ........ وحدة خماسية وسادسها الجنوب

وانتوا تبونا تحت حكم الزيدية ------ يا غارة الله من تحمال الذنوب

في مثل تلك المواقف تتجلى حكمة الرجال وبعد نظرهم وسعة أفقهم، لما ستؤول إليه الأحوال وكأنهم يقرأون المستقبل، بينما الجالسون على كراسي الحكم أعمت بصائرهم السلطة التي اغتصبوها عنوة من شعب الجنوب، ولم يروا إلا تحت أقدامهم، وبعد حكم دموي استمر منذ عام 1967م وحتى اليوم، فقدنا آلاف الرجال وفقدنا الوطن.. وأضعنا هويتنا، وزرعوا بين الجنوبيين الأحقاد والضغائن التي نجاهد لمحوها من قلوبنا إذ من المستحيل استعادة الجنوب وهويته ونحن على هذا الحال من الفرقة والشتات حتى أصبحنا نعرض أنفسنا وبنادقنا للإيجار لكل طامع في بلادنا!!
د. علوي عمر بن فريد
والى اللقاء في الحلقة الثانية