سلام التميمي يكتب لـ(اليوم الثامن):

بين الرواية والفيلم

إن الصورة المتحركة تستطيع أن تروي حكاية, وفي هذا تُكمن قوتها, ونفس الشىء تستطيع الرواية المكتوبة أيضاً, وعندما أُكتشفت السينما الناطقة كان الفيلم الصامت قد أحدث بالفعل أثره البالغ على الرواية المكتوبة, ولنتناول أسلوب كُتاب الرواية الكبار, حيث إن هؤلاء الكُتاب سواء كان هدفهم هو سرد الأحداث أو وصف الشخصيات وتحليلها, أو حتى التساؤل عن مغزى الحياة, وسواء كانت موهبة الواحد منهم تميل إلى التفصيل والأفاضة في التعبير كموهبة بروست, أو إلى البلورة والتركيز كموهبة همنغواي, فأننا نجد الكاتب مضطراً إلى عمليتين : أن يروي, أي أن يلخص وأن يعرض بالصور, أي أن يجسد, والروائي يختار اللحظات التي يصفها أو يجسدها أختياراً غريزياً أو ينتقيها إنتقاءاً واعياً, مستهدفاً إضفاء أهمية خاصة عليها .

والدلالة المباشرة عن الروائيين جميعاً على أن الكاتب أنتقل إلى التصوير المجسد, هي الأنتقال من السرد إلى الحوار, فالحوار في الرواية يخدم قبل كل شىء مهمة التجسيد, وهذا هو التكنيك الذي أستخدمته الرواية الإنكليزية في نهاية القرن التاسع عشرعند جوزيف كونراد وهنري جيمس, وهي تسعى إلى التخلص من حماقة الروائي الذي يبدو محيطاً بكل شىء, ومحاولتها إيجاد أسلوب جديد يحل محل ذلك الأسلوب, أما الفيلم فإنه يحاول أستخدام هذا النوع من الحوار في أضيق حدود ممكنة, وكذلك تفعل الرواية الحديثة.

ويستخدم الحوار أيضاً كوسيلة تساعد في رسم الشخصيات, وستندال مثلاً قد أجهد نفسه من أجل تحديد شخصية جوليان سوريل _ بطل رواية الأحمر والأسود _عن طريق التصرفات والسلوك أكثر مما حاول تحديد تلك الشخصية عن طريق نبرة الصوت, غير إن اللهجة والحوار أصبحا في القرن العشرين في المقام الأول من الأهمية في الرواية, إذ أصبحا من وسائل التعبير الأساسية عن الشخصية, أصبحا جزءاً من كيان الشخصية, إن بروست الذي كان لايكاد يرى شخصياته, جعل تلك الشخصيات تتكلم ببراعة الرجل الأعمى, مما يجعلنا نعتقد إن الكثير من من مشاهده _ اذا ما قُرئت قراءة سليمة _ يمكن أن يكون لها أثر أوقع في الراديو حيث لا نرى الممثل, أكثر مما يكون لها في المسرح, لكن السينما كالمسرح توجه إلى لهجة الحوار أهمية أقل مما توجهه إليها الرواية, وذلك لأن الممثل يكفي لإعطاء الشخصية وجوداً مادياً بل وقدراً من المميزات الشخصية.

وأخيراً فهناك ذلك الحوار الجوهري, الحوار الذي يجري في إطار مشهد محدد, وهو موضوع لا يمكن أن توضع له قواعد عامة, فهو كما يصنعه كل فنان عظيم, عمل درامي ينفصل فجأة عن كل شىء كما نجده عند دوستويفسكي, أو يرتبط بالكون بأسره كما نجده عند تولستوي, لكنه عند كل روائي عظيم هو الوسيلة الرئيسية للتأثير في القارئ, هو الإمكانية المتاحة لجعل المشهد ملموساً, هو البعد الثالث .

إن هذا النوع من الحوار _ الذي لم يكتشف الفيلم طبيعته وتأثيره إلا أخيراً _ هو أحد المصادر التي تبنى عليها الصورة قوتها, ففي الأفلام الحديثة نجد أن المخرج يتقدم نحو الحوار بعد مقاطع طويلة من الصمت, تماماً كما يتقدم الروائي نحو الحوار بعد مقاطع طويلة من السرد.

ويملك الروائي وسيلة أخرى عظيمة من وسائل التعبير, قدرته على ربط اللحظات الحاسمة في حياة أبطاله بالجو المحيط بها أو بالعالم كله, وكونراد يستخدم هذه الوسيلة بأنتظام, وقد كسب بها تولستوي مشهداً من أروع المشاهد في جميع الروايات, مشهد الليلة التي نرى فيها الأمير أندريه الجريح يتأمل السحب بعد معركة أوسترليتز في رواية الحرب والسلام, وقد أستخدم الفيلم الروسي هذه الوسيلة أستخداماً بديعاً في فترة إزدهاره .

ومع ذلك يبدو أن الرواية تحتفظ بميزة على الفيلم, وهي القدرة على الأنتقال إلى داخل الشخصيات, ولكننا نلاحظ من ناحية أن الرواية الحديثة تميل بأستمرار إلى التقليل  من تحليل شخصيتها في لحظات الأزمة, ونلاحظ من ناحية أخرى إن السيكولوجيا الدرامية _ كما نجدها عند شكسبير, وإلى حد كبير عند دوستويفسكي _ التي نرى فيها تلميحاً إلى الأسرار عن طريق التصرفات أو أشباه الأعترافات, قد لاتكون أقل قوة من التحليل ولا أقل قدرة على كشف دخائل الشخصيات من الناحية الفنية, وأخيراً فإن عدم التفصيل الكامل لذلك الجزء الخفي من الشخصية _ وهو التفصيل الذي يمكن أن يتم على الشاشة عن طريق معجزة الوجه الأنساني _ قد يكون سبباً آخر يضفي على العمل الفني ذلك التساؤل الذي تستمد منه بعض الشطحات الخيالية عظمتها, ومن أمثالها الروايات القصيرة الرائعة التي كتبها تولستوي .