سلام التميمي يكتب لـ(اليوم الثامن):
الفن الروائي في الأدب الانكليزي
ماكنت لألصق مثل هذا العنوان الذي يوحي بالشمول على هذه المقالة القصيرة التي تفتقر بالضرورة إلى أي نوع من الأكتمال، عن موضوع قد تذهب بنا معالجته معالجة تامة بعيداً، وقد تكلم عن هذا الموضوع السيد والتر بزانت تحت نفس العنوان، في محاضرة التي ألقاها في المعهد الملكي تدل فيما يبدو على أن الفن الروائي يثير أهتمام كثير من الأشخاص، الذين يعبئون بمثل هذه المحاضرات، التي يحاول أولئك الذين يمارسون هذا الفن ابداءها عليه، ولذا فأني حريص على أدع هذه الفرصة المواتية تمر دون أن أزج ببضعة كلمات، مستغلاً ذلك الأهتمام الذي لابد أن السيد والتر بزانت قد أثاره، فمن المشجع جداً أنه قام بالتعبير عن بعض آرائه في سر قص القصص .
ففي ذلك دليل على الحياة وحب الأستطلاع _ من جانب الروائيين ومن جانب القراء على حدٍ سواء، فمنذ فترة وجيزة كان من الممكن أن يفترض المرء في الرواية الأنكليزية غير صالحة للمناقشة أو مشكوك فيه كما يقول الفرنسيون، إذ لم يكن يبدو أن ورائها نظرية أو عقيدة أو أحساس بذاتها _ أحساس بأنها تعبير عن عقيدة فنية، وليدة الأختيار والمقارنة، لأنني لا أزعم أنها كانت بالضرورة أسوء حالاً نتيجةً لذلك، إذ يعوزني ذلك القدر من الشجاعة الذي يمكنني من أن أزعم أن شكل الرواية كما كان يراه ديكنز ووليم ثاكري مثلاً كان يتسم بشيء من عدم الأكتمال، ولكن الرواية على أي حال كانت ساذجة، ومن الواضح أنه إذا كان من المقدر لها أن تعاني بشكل ما نتيجة لفقدها هذه السذاجة، فمما لا شك فيه أنها تنوي أن تعوض ما تفقده من مزايا، فقد أنتشر في الفترة نفسها أحساس مريح، لطيف المزاج، بأن الرواية هي رواية وكل ماعلينا فعله تجاهها هو أن نهضمها بالقراءة، ألا أنه في الفترة الأخيرة _ فترة نهوض الرواية الانكليزية _ ولسبب ما ظهرت علامات تدل على عودة الحيوية إلى الرواية، ويبدو أن عصر النقاش قد بدأ لحدٍ ما، والفن يعيش على النقاش وعلى التجربة، على حب الأستطلاع وعلى تبادل الآراء ومقارنة وجهات النظر، وهناك أعتقاد بأن تلك الأوقات التي لا يجد المرء فيها شيئاً مفيداً يقوله على الفن الذي يمارسه أو سبباً يبرر به تفضيله له على غيره من أنواع النشاط ليست أوقات تطور، بالرغم من أنها قد تكون أوقات مجيدة، بل قد تكون أوقات ركود إلى حدٍ ما، أن ممارسة أي فن بنجاح أمر يبعث السرور إلى النفس، ولكن مناقشته مناقشة نظرية أمر شيق أيضاً ومثير للأهتمام، وبالرغم من وجود الشيء الكثير من هذه دون تلك فأني أشك في إمكان تحقيق نجاح حقيقي على الأطلاق، دون وجود عقيدة راسخة كامنة، فالنقاش وتقديم مقترحات والتعبير عن الآراء كلها أشياء مخصبة عندما تتسم بالصراحة والأخلاص، ولقد قدم السيد بزانت مثلاً رائعاً لذلك بتحدثه عما يعتقد أنه الطريقة التي يجب أن تكتب بها الرواية، والطريقة التي يجب أن تُنشر بها كذلك، إذ أن رأيه بالفن الذي تكلم به في محاضرته يعالج ذلك أيضاً، ولا شك في أن غيره من العاملين في نفس الميدان سيتابعون معالجة الموضوع، وألقاء الضوء عليه بما لديهم من خبرة فتكون النتيجة دون شك أزدياد أهتمامنا بالرواية عما كنا نخشى ألا يتحقق، طوال فترة من الزمن سيصبح أهتماماً حيوياً، نشطاً، لا يكف عن التساؤل .
يجب على الرواية أن تأخذ ذاتها مأخذ الجد ليأخذها الجمهور مأخذ الجد، فمما لا شك فيه أن الخرافة القائلة بأن الرواية أثم قد ماتت في إنكلترا، ولكن روحها مازالت باقية في تلك النظرة غير المباشرة التي ينظر بها إلى أية قصة لا تعترف بشكل أو بآخر بأنها ليست سوى مَلَحَة، وحتى أكثر الروايات مرحاً تشعر إلى حدٍ ما بثقل هذا الحكم الذي كان يوجه من قبل ضد الخفة الأدبية، فالخفة لا تفلح دائماً في أن يتقبلها الناس كأمر معترف به، فما زال الناس يتوقعون بالرغم من أنهم يخجلون من المجاهرة بذلك، أن يتقدم الأنتاج الذي لا يعدو أن يكون لعباً تمثيلياً _ وهل القصة غير ذلك؟ _ بتبرير لوجوده أو أعتذار منه، أي أن يرفض التظاهر بمحاولة تمثيل وتصوير الحياة فعلاً، وهذا بالطبع ما ترفض أية قصة عاقلة يقظة أن تفعله، إذ سرعان ما تدرك أن ما يمنح لها من تساهل نتيجة لهذا الشرط، ليس إلا محاولة لخنقها، محاولة تخفي وجهها الحقيقي خلف قناع من الكرم، فإن العداء التقليدي للرواية الذي كان صريحاً بقدر ما كان ضيق الأفق، والذي كان يعتبرها أقل نفعاً للجانب الأزلي في الإنسان من المسرحية، كان في الواقع أقل إحتقاراً لها من ذلك، أن المبرر الوحيد لوجود الرواية هو
أنها تحاول بالفعل تصوير الحياة، وعندما ترفض هذه المحاولة نفس المحاولة التي نراها على لوحة المصور، فأنها ستكون قد وصلت إلى حالة غريبة، لا يطلب أحد من الصورة أن تتواضع لكي نغفر لها وجودها، والتشابه بين فن الرسام وفن الروائي في رأيي تشابه تام فمصدر الوحي فيهما واحد وعملية الأبداع في كل منهما هي نفس العملية مع أختلاف الوسائل، ونجاحهما أيضاً واحد، وبوسعهما أن يتعلما كلٍ من الآخر، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا بعضهما الآخر، فقضيتهما واحدة ومجد الواحد هو مجد الآخر، يعتقد المسلمون أن الصورة شيء غير مقدس ولكن وقتاً طويلاً قد مضى منذ كان يعتقد أي مسيحي ذلك، ولذا مما يبدو أكثر غرابة أن يبقى في العقل المسيحي آثار شك وإن كانت مقنعة في القصة، وهي أخت الصورة إلى هذا اليوم، ولعل الطريقة الوحيدة الفعالة للقضاء على هذا الشك هي تأكيد التشابه الذي أشرت إليه منذ لحظة أي الأصرار على أنه كما أن الصورة هي الحقيقة فالرواية تاريخ، وهذا هو الوصف الوحيد العام الذي يمكننا أن نصف به الرواية، فالتاريخ يسمح له أيضاً بتصوير الحياة ولكنه مثله في ذلك مثل التصوير غير مطالب بالأعتذار ومادة الرواية مثل مادة التاريخ مخزونة أيضاً في الوثائق والسجلات، وحتى لا تفصح عن ذاتها كما يقولون لابد أن تتحدث بثقة، بنبرة المؤرخ، لقد أعتاد بعض الروائيين الذين أكتملت لهم جميع المزايا، أن يكتشفوا عن أنفسهم دون قصد بطريقة كثيراً ما تبعث الدمع إلى عيون أولئك الذين ينظرون إلى قصصهم نظرة جدية، ولقد أستوقف نظري وأنا أقرء الكثير من صفحات أنتوني ترولوب أفتقاره إلى الحكمة في هذا الصدد، فهو يعترف للقارئ في فقرة أستطرادية بأنه هو وهذا الرفيق الطيب أنما يوهمان أنفسهما بوجود ما ليس قائم بالفعل، ويعترف بأن الأحداث التي يرويها لم تحدث بالفعل، وأنه يستطيع أن يوجه قصته أية وجهة يريدها القارئ، وأعترف أن مثل هذه الخيانة لمهمة الروائي المقدسة، تبدو لي جريمة مروعة وهذا هو ما أعنيه بموقف الأعتذار، وهو يصيبني بصدمة لا تختلف في شدتها عندما يكون المتحدث ترولوب عما لو كان المتحدث جيبون أو ماكولي .