سلام التميمي يكتب لـ(اليوم الثامن):
ما بعد الحداثة والادب
وفقاً للناقد الأنكليزي تيم وودز, في مجال الدراسات الأدبية تلقّى مصطلح " مابعد الحداثة " أوسع نطاق في الأستخدام وأثار جدلاً كبيراً, وكانت هناك محاولات عديدة لتنظير عواقب ما بعد الحداثة ومظاهرها في الأدب, إذ واجهت كلها مشكلات عند تعريفها من الناحية التاريخية والشكلية, ويشير وودز إلى أن ما بعد الحداثة الأدبية هي شكل متعدد الأوجه أدَّى إلى قدر كبير من المناقشة الشائكة بين النقاد, ولذلك بدلاً من محاولة تلخيص ماهيتها في قسم قصير, سأستخدم قراءة لأحد الأعمال الأدبية بغية تقديم مفهوم ما بعد الحداثة الأكثر نفوذاً في ما بعد الحداثة الأدبية, ولدى النظر إلى ما بعد الحداثة في الأدب أريد أن أركز على عمل محدد, والنص الذي أخترته لهذا هو رواية الكاتب الأسكتلندي ( أليسدر غراي ) بعنون ( كائنات مسكينة ) وهي رواية تعد ما بعد حداثية في أية قراءة عقلانية لها .
تقع أحداث رواية ( كائنات مسكينة ) في اسكتلندا في القرن التاسع عشر, وهي رواية تعيد كتابة رواية ماري شيلي ( فرانكشتاين ), إذ يُستَبدَل الوحش الذكوري بامرأة شرهة جنسياً خلقها طبيب يدعى " غودين بيش باكستر ", وهو الذي وضع دماغ الجنين داخل جسم أمه الغارقة لينقذ حياتها, ويستحضر أسم باكستر الكامل كل من أب ماري شيلي وهو " وليم غودين " وزوجها " بيرسي بيش شيلي ", ولباكستر حضور آلي غير بشري في غرابته, ومع حجمه الضخم وصوته العالي وعادات أكله الغريبة وحاجته للحفاظ على الأدوية يصبح أكثر وحشية بكثير من المرأة نفسها, وعلى ما يبدو ترسم الرواية في سردها الرئيسي خطاً لعلاقتهما وتنتقل إلى زواجها ومن ثم إلى وفاته .
وبعد هروب بيلا من خالقها مع محامٍ دنيء, تشرع بيلا _ وهي بطلة الرواية _ في مغادرة أوديسية عبر أوروبا في القرن التاسع عشر, فتلتقي بمجموعة من الشخصيات المختلفة, بعضها خيالي وبعضها الآخر واقعي, وتُروى القصة بوسائل متعددة مثل الرسائل واليوميات التي تم جمعها معاً وإثراؤها من قبل زوج بيلا الأخير, وهو طبيب يدعى " آرشيبالد مكاندليس " وقد نُشِرَت مخطوطته لاحقاً في نسخة واحدة فقط, ولكنها لم توزع, ويكشفها راوي الكتاب أليسدر غراي, ولكن هذه ليس المدى الكامل للرواية, فجنباً إلى جنب مع سرد مكاندليس, ثمة رسالة من فكتوريا مكاندليس وهي زوجته الحقيقية في الحياة وهي نموذج لبيلا, تقول فيها إن لاشيء من هذا كان صحيحاً, والكتاب كان مستوحى فقط من هذيان زوجها الغيور, وفضلاً عن هذه الرسالة, ثمة مقدمة أيضاً كتبها غراي تصف كيف تم العثور على المخطوطة وفقدانها مرة أخرى, وثمة سلسلة طويلة من الحواشي العلمية كتبها غراي, وثمة مؤرخ محلي لإثبات حقيقة الأحداث التي تم وصفها, ومن الواضح أن نص ( كائنات مسكينة ) هو نص تجمعي غير قابل للإنقاص إذ يتكون من مجموعة من الأصوات والأساليب المتنافسة, وهو مجزأ لأن هذه الأصوات لا تُشكل وحدةً متماسكةً كونها تتعارض بأستمرار وتقوض بعضها بعضاً, وهذا هو الجانب من نثر ما بعد الحداثة الذي قدمه الناقد الامريكي برايان مكهيل في كتابه " النثر مابعد الحداثي " .
أن رواية ( كائنات مسكينة ) لها نطاق من المصادر يربطها الناقد الأمريكي فريدريك جيمسون بالتقليد, بالأضافة إلى فرانكشتاين, تُلمح رواية ( كائنات مسكينة ) لشكسبير وإغار آلان بو وتشارلز ديكينز ووالتر سكوت ولويس كارول, وكذلك لدراسة هنري غراي في القرن التاسع عشر لجسم الأنسان والتشريح, الذي أُخِذَت منه صوراً وتم أدراجها في النص, وتنتقل الرواية بسرعة بين الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية, وتلغي عمداً التمييز بينهما من خلال إنتاجها لنسخة كرتونية للوحة الموناليزا, ووصفها لمسرحية هاملت بأنها تراجيديا أنتجها شكل من أشكال الجنون الذي تطور في المحكمة الدنماركية كنتيجة لنظام الصرف الصحي اللاوقائي فيها, ولكن هو أقل وضوحاً هو ما إذا كان هذا يعني إن الكتاب يفتقر إلى الحد الأدنى من النقد, وبينما يبدو نقد الأسلوب عند جيمسون أنه يقرأ رواية ( كائنات مسكينة ) على أنها من المرجَّح تنازل لعوب عن المشاركة السياسية .
يثير النقاش في رواية ( كائنات مسكينة ) سؤالاً مهماً آخر حول ما بعد الحداثة, إذا كانت رواية غراي رواية ما بعد حداثية, فكيف نقرأ رواية مثل ( فرانكشتاين )؟ تطرح رواية كائنات مسكينة كل المشكلات المتعلقة بسياسة التمثيل المذكورة أعلاه, ولكن ألا تطرح فرانكشتاين بالمثل أموراً مشابهة ومعقدة؟ بالطبع إنها رواية مختلفة جداً, وأقل هزلية في صوتها, ولكن من المهم ألا ننسى أن شكلها الأدبي ليس ببساطة سرداً مباشراً أو واقعياً أياً كان معنى هذه المصطلحات, فرواية ( فرانكشتاين ) نفسها تستخدم الكثير من التقنيات, مثل السرد الذي له إطار معين, والشك المتعلق بالوجود, والرواة غير الموثوق بهم, وهذه الأمور تعد كلها جوهرية في وصف ما بعد الحداثة في رواية ( كائنات مسكينة ), ما الذي يجب أن نفهمه من هذا؟ هل يمكن أن نصف رواية ( فرانكشتاين ) أيضاً بأنها, بمعنى أو بآخر, ما بعد حداثية ؟
يبدو أن هذه الفكرة تلوح في الأفق عندما نحاول أن نفهم عموماً العلاقة بين التاريخ والتمثيل الفني اللذين يرتبطان غالباً بما بعد الحداثة, فإحدى الشائعات النقدية تقول بأنه يمكن تقسيم تاريخ الرواية إلى ثلاث مراحل, وثمة قراءات مشابهة لهذا الجدل في الأنواع الأدبية الأخرى وكذلك العمارة والفن وغيرها من الأشكال الثقافية والإعلامية, حيث بدأت المرحلة الأولى وهي الواقعية في القرن الثامن عشر في عمل مؤلفين مثل دانيال ديفو وصموئيل ريتشاردسون, وكانت تهدف هذه المرحلة إلى عرض صورة حية للعالم قدر الإمكان عن طريق أخفاء الطابع التقليدي لبنيتها, وتلي هذه المرحلة الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, والتي يمثلها عمل كتاب مثل فرجينيا وولف وجيمس جويس, وهي صعبة بشكل متعمد ونخبوية في تجاربها التي تهدف إلى تناول الحياة والتجربة بشكلٍ مختلف, أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي ما بعد الحداثة التي تجسدت في أعمال كتاب مثل جون بارث وسليمان رشدي وأليسدر غراي, إذ تتابع شكلياً ما بعد الحداثة تجربتها مع التقنية الأدبية, ولكنها ترفض أن تتناول الموقف النخبوي الموجود عن الحداثيين, وتفضل بدلاً من ذلك أن تشير إلى ثقافة عامة الشعب وخاصية التقلييد أو المحاكاة, ومن هذا المنظور تُرى العلاقة بين الواقعية والحداثة وما بعد الحداثة بأنها تقدم تدريجي من قيود الواقعية إلى حرية ما بعد الحداثة وتجربتها .
وعلى نقيض هذه القراءة, ثمة مجموعة من النقاد الذي يجادلون بشكل مقنع بأنه يمكن تحديد موقع ما بعد الحداثة على مر التاريخ, وأنه بالتالي يمكن أن تكون ( فرانكشتاين ) ما بعد حداثية مثل ( كائنات مسكينة ), وإذا فكرنا بما بعد الحداثة كأسلوب بدلاً من حقبة, فإنه بالتأكيد ليس ثمة شك في أن تُعَد النصوص والأعمال الفنية من حقب سابقة ما بعد حداثية إذا أستخدمت مجموعة من الأدوات الشكلية المرتبطة بما بعد الحداثة, وبالإضافة إلى فرانكشتاين, ثمة نصوص أدبية تُعَد في كثير من الأحيان ما بعد حداثية من حيث الأسلوب إذا لم نقل من حيث التاريخ, ومنها : رواية دون كيخوتة لثيربانتس (1604-1614), ورواية تريسترام شاندي للورنس ستيرن (1759-1767), ورواية أليس في بلاد العجائب للويس كارول (1865-1872), ورواية يوليسيس لجيمس جويس (1939), فكل نص من هذه النصوص يستخدم العديد من التقنيات الشكلية التي حددها النقاد, بالرغم من أن جميعها مكتوبة في وقت يمكن تحديده بأنه جاء قبل حقبة ما بعد الحداثة, أن النقاد الذين يؤيدون القراءة الأسلوبية بدلاً من القراءة المبنية على الحقبة الزمنية في عصر ما بعد الحداثة يميلون إلى أتباع الحجج المتعلقة بالتمثيل الفني التي وضعها الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في مقالة رداً على سؤال, ما: ما بعد الحداثة؟ ففي هذا المقال يستخدم ليوتار مصطلحات كالواقعية والحداثة وما بعد الحداثة, ولكنه يفعل ذلك بطريقة ترفض تحديد الحقبة التاريخية الذي أوضحناها أعلاه, فالمراحل الثلاث تتعايش في وقت واحد في أية ثقافة, وتشير إلى أنماط عرض مختلفة ضمن البيئة الواحدة, ويناقش ليوتار بأن الواقعية هي الأسلوب السائد في أية ثقافة, ومهتمها تصوير العالم من وجهة نظر تعطينا معنى يمكن التعرف عليه من أجل أن يتمكن جمهورها من فك تشفير الصور والتسلسلات بسرعة, وبهذه الطريقة يمكنهم أن يحموا وعيهم من الشك, وبعبارة أخرى, إن هدفها هو تصوير العالم وفقاً للأعراف التي يألفها القارئ أو المشاهد مسبقاً لتكون مفهومة بسرعة ودون إشكال, وقد ينطبق هذا النوع من الواقعية بالتأكيد على شكل السرد المستخدم في روايات كثيرة من القرن التاسع عشر, ولكن يمكن أيضاً أن توجد في المظاهر المعاصرة مثل أفلام هوليوود والموسيقى الشعبية والإعلانات, التي تتبع أنماطاً معترف بها, وعلى النقيض من الواقعية, ربط ليوتار الحداثة بما بعد الحداثة, فهو يرى كلتيهما كأشكال تخريبية محتملة مهمتها عرض وجود شيء غير قابل للعرض, ليُظهِرَ هذا الشيء أن ثمة أمر يمكن أن نتصوره دون أن نراه أو نشير إليه, ومايعنيه بهذا هو أنه بدلاً من إعادة إنتاج ماهو مألوف مباشرةً, تزعزع أعمال الفن الحداثية وما بعد الحداثية قدرة القارئ على التعرف عليها من خلال التلميح إلى ما تقمعه أو تستعبده أية ثقافة من وسائل الأتصال العادية لديها, وبتعبير آخر, هذه الأعمال الصعبة ومثيرة للقلق بشكل متعمد, ذلك أنها تتحدى الممارسات السائدة في العرض والفهم, وعندما يذكر ليوتار الفئات الجمالية الفلسفية, يُسمي تأثير هذا النوع من الفن " التسامي ", وعلى النقيض مما هو جميل ويقوم على مختلط باللذة والألم كالجذب والتنافر أو الرعب والإرهاب في آنٍ واحد, فهو يشوش الموضوع ويتحداه ليستجيب دون أن يحدد مسبقاً مالشكل الذي ينبغي أن تأخذه الأستجابة, ومفهوم التسامي كتشويش أو أضطراب لكل مانفهمه في حياتنا اليومية جوهري في نظرية ما بعد الحداثة, سواء كانت تتعامل مع الفن أو التكنولوجيا أو السياسة .