إبراهيم الزبيدي يكتب:
إيران والوضع الدولي الجديد
يحار الكثيرون في تفسير لغز إصرار الأميركيين على تسليم العراق، بعد الغزو، إلى مجموعات سياسية عراقية يعلم الجمهوريون منهم والديمقراطيون، بدقة وعمق، بأن الشيعية من تلك الأحزاب والتجمعات مرتبطة بإيران، بل إن بعضها إيراني بالولادة والرضاعة، والكردية والعربية السنية المتحالفة معها موالية لإيران بشكل أو بآخر، رغم أن الإدارات الأميركية الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة لا تكف عن الشكوى المريرة من خطر إيران على أمن المنطقة واستقرارها، ومن رعايتها للإرهاب، واستمرارها في تمويل أحزاب وتجمعات وميليشيات مارقة مشاكسة، وتسليحها، وتدريب المخربين وتصديرهم إلى دول عديدة في المنطقة والعالم لإثارة القلاقل وزعزعة الأمن فيها، وخاصة في العراق ولبنان ودول الخليج وفلسطين، إضافة إلى عنادها وإصرارها على الاستمرار في تطوير برامجه النووية العسكرية، رغم كل قرارات الشرعية الدولية وتحذيراتها وإنذاراتها وعقوباتها.
فالثابت، واقعيا وتأريخيا، أن الولايات المتحدة، قبل غزو صدام للكويت بكثير، كانت تمد جسورا خفية تارة، ومعلنة تارة أخرى، مع تجمعات المعارضة العراقية الشيعية المُصنَّعة إيرانيا، والأحزاب الكردية والسنية المتحالفة معها، وهي تعرف أنها أحزاب وتجمعات مرضيّ عنهم في إيران، ومنها كثير مُمول من مخابراتها.
كما أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، أيضا، كانت تنسق وتتعاون مع سوريا الأسد، وهي إيرانية الهوى والمصلحة أيضا، من أجل تطبيع العلاقة مع أحزاب المعارضة العراقية المقيمة في سوريا، للعمل معا على إسقاط نظام صدام، وإقامة نظام جديد يكون بقيادة تلك الأحزاب والتجمعات.
والمطلوب إثباته هنا أن أميركا لم تُخدع بحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وأحمد الجلبي وأياد علاوي، من الشيعة، ومسعود بارزاني وجلال طالباني والإخوان المسلمين العراقيين. فهي الأكثر معرفة بأخلاقهم وأطماعهم وأمراضهم وأهدافهم السرية والعلنية الطائفية أو القومية العنصرية أو الحزبية أو الأسرية والعشائرية، دون ريب.
وحين دخلت قوات الاحتلال الأميركي إلى العراق لم تتراجع وزارة الدفاع ولا الخارجية ولا السي آي أي ولا إدارة بريمر عن قرار اعتماد تلك الأحزاب وريثةً شرعية ووحيدة لنظام صدام.
لو حصل وسقط حكم الأحزاب الشيعية الحاكمة اليوم في العراق فلن تقوم لها قائمة، من الآن وإلى ألف سنة قادمة. وسوف يكون هذا السقوط نهائيا وأبدياً للإسلام السياسي الإيراني
وها هم اليوم، بعد ستة أشهر من إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة ما زالوا ممسكين بأيديهم وأرجلهم بما حصلوا عليه من الأميركيين من مواقع ومكاسب، لا فرق بين جماعة الإطار التنسيقي أو تحالف مقتدى الذي تمرد على (إخوته) في البيت الشيعي وأصبح أكثر ميلا للانفراد بالسلطة باسم الأغلبية الوطنية لا الشرقية ولا الغربية، رغم أنه متحالف مع أطراف المحاصصة السابقة، ورغم علمه بفساد حلفائه، وصعوبة فك ارتباطهم بإيران، حتى لو تظاهروا بغير ذلك.
ولعل أولى خطايا الأميركيين في العراق، جمهوريين وديمقراطيين، هي انصياعُهم لإرادة قادة الحزبين الكرديين والمجلس الأعلى وحزب الدعوة، وموافقتهم على مطلب إلغاء الجيش العراقي، بزعم أنه جيش صدام حسين، وعلى حل أجهزة الأمن والشرطة، وهدم الدولة العراقية بالكامل، بذريعة إعادة بنائها على أسس ديمقراطية، وهم عالمون بأن حلفاءهم العراقيين لا يريدون سوى خلوّ الدولة الجديدة من القوة الوطنية الضاربة الموحدة القادرة على ضبط الأمن وفرض سلطة القانون ومنع التجاوز والسرقة والاحتيال والتخابر مع الأجنبي.
أما ثاني الخطايا فهي منحهم حرية التصرف، بالتنسيق مع المرجعية، في كتابة الدستور وفق احتياجاتهم وأطماعهم وأغراضهم الحزبية والطائفية والقومية العنصرية، وصياغة قانون انتخابات على مقاسهم، واحتكار السلطة القضائية، والجيش وقوى الأمن الداخلي، وأغمضوا عيونهم عن عودة الميليشيات الشيعية من إيران، وتأسيس ميليشيات جديدة لها إداراتها المستقلة عن الدولة، ولها سجونها السرية ومكاتبها التجارية الخاصة التي تؤمّن الموارد اللازمة لتسليح وتمويل أعضائها.
وخلاصة القول هنا هي أن الأميركيين مسؤولون بالكامل عما يحصل اليوم من انسدادٍ دستوري، وعن مخاطر الانفلات الأمني المحتمل في العراق، إذا عجزت إيران عن إعادة مقتدى الصدر إلى قواعده الآمنة السابقة في البيت الشيعي، خصوصا في ظل التطورات السياسية والعسكرية الإقليمية الجديدة التي أنتجت الحلف العربي – الإسرائيلي المعادي لها، بالإضافة إلى التداعيات المعاكسة لمصالح النظام الإيراني التي أنتجها الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي تتسبب اليوم في تعثر مُحادثاته النووية في فينا، واحتمال فشل الإفراج عن أمواله المجمدة في الخارج.
يقول صديقي المعارض العراقي السابق والمعارض الحالي لحكم المحاصصة المستمر من 2003 وحتى اليوم، والخائف من اشتعال حروب أهلية جديدة بين رفاق السلاح، إن المحتمل أن يكون الأميركيون قد تقصدوا تسليم العراق لأحزاب إيران بهدف تدمير الإسلام السياسي وتشويه سمعته، وتفكيك قوته، وبالتالي إيصاله إلى نهاية طريقه، ثم إسقاطه ودفنه إلى أبد الآبدين.
فليس هناك سلاح لقتل الإسلام السياسي أمضى من أخطاء الإسلاميين أنفسهم، وفشلهم في توفير العدالة والنزاهة وحكم القانون، وتكالبهم على السلطة والمال، وتقاتلهم على الكراسي والمنافع والعمولات والاختلاسات، وتهميشهم غير المنطقي وغير المعقول لشرائح واسعة من العراقيين، وشطارتهم في توسيع دائرة الناقمين عليهم، وزيادة أعداد المبعدين والمهجرين. ولا يَستبعد صديقي أن يكون الأميركيون شجعوا وما زالوا يشجعونهم على المزيد من الاختلاف والإصرار على المطالب، وصولا إلى الاقتتال.
فلو حصل وسقط حكم الأحزاب الشيعية الحاكمة اليوم في العراق فلن تقوم لها قائمة، من الآن وإلى ألف سنة قادمة. وسوف يكون هذا السقوط نهائيا وأبدياً للإسلام السياسي الإيراني، على وجه التخصيص، وسقوطا مؤكدا أيضا لكل سلطة فاسدة ظالمة أخرى، عربية أو غير عربية، تتستّر بالدين الإسلامي لتسرق شعبها وتذبح أبناءه من معارضيها باسمه، وهو منها ومن غشها وخداعها وجهلها وغبائها بريء. قد يكون هذا خيالا وقد لا يكون. وما علينا سوى الانتظار.