إبراهيم الزبيدي يكتب:
الديمقراطية عندنا وعندهم
إن الثابت والمجرب والموثق أن الانتخابات، في الغرب "الكافر" الذي تقوده أميركا، محصنة. لا الحكومات ولا القضاء ولا المواطن في وارد خيانة الأمانة والتلاعب والاحتيال. أما الانتخابات عندنا في بلاد "المؤمنين" فلا يربحها إلا القويّ الشاطر صاحب المال والسلطة والسلاح والدولة الخارجية التي تقف وراءه، ولا يخسرها إلا الضعيف الذي لا حول له ولا قوة ولا ناصر ولا معين.
ومن عاش في أميركا أو في أحدى دول أوروبا العلمانية لابد أن يكون قد تأكد من أن الناخب عندهم متعلم وحر ومخلص لوطنه وأمين على مصالح شعبه ووطنه، ونادر جدا أن يخون الأمانة ويمنح صوته لمن لا يستحق.
أما في بلادنا والبلاد التي تشبهنا فجميع الانتخابات، من أولها إلى آخرها، مزادات ومقايضات وأحيانا كثيرة معارك بالسلاح والمال وسلطة الحكومة.
طبعا هنا لا نتحدث عن دولٍ يُقرر رئيسُها أو أو ملكها أو مرشدها أو وليُّها الفقيه أو حزبُها الواحد، سلفا، من هو المرضيُّ عنه الذي يحق له الترشح للانتخابات، ومَن هو الناخب المؤتمن المسموح له بالتصويت، وكم عدد الفائزين وكم عدد الخاسرين، كما هو الحال في إيران وروسيا والصين وكوبا وفينزويلا.
بل نتحدث فقط عن الديمقراطية في العراق، باعتبارها أفصح مثال على الانفصام السياسي والثقافي والديني والعقائدي، وعلى المزاوجة بين الديمقراطية والديكتاتورية بإتقان.
فما جرى في العراق، منذ انتهاء الانتخابات الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، وما يجري اليوم، وما سيظل يجري لشهور قادمة، دليلٌ فاقع ومدوي على قلة الضمير وموت الوطنية وسوء السلوك.
فلا الإطاريون مستعدون للتخلي عن مواقعهم المُجزية في السلطة، ولا هم قادرون على كسر إرادة الصدريين وحلفائهم البرزانيين والحلبوسيين وأخذ الجمل بما حمل دون شريك، ولا مقتدى ومسعود والحلبوسي مالكون القوة الكافية لإلحاق الهزيمة النهائية بخصومهم الإطاريين. ثم لا هؤلاء ولا أؤلئك فاهمون الديمقراطية على حقيقتها، وملتزمون بأخلاقها وقواعدها التي لا تكون بدونها.
فالديمقراطية التي أرسى دعائمها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر والمرجعية وإيران في العراق، منذ عام الغزو الأميركي للعراق، هي أقصى ما تسمح به دولة الأحزاب المملوكة لبضع أسرٍ عريقةٍ في العشائرية الإقطاعية وتحتاج لصناديق الاقتراع لتستر ديكتاتوريتها بشرعيتها المغشوشة، بمشاركة الأحزاب الطائفية السلفية المتزمتة التي تعتقد بأن الديمقراطية بدعة، وكل بدعة في النار.
وبغض النظر عن نتائج الانتخابات فلا مبدل لما تعافوا عليه. فرئاسة الجمهورية حصةُ البيت الكردي، ورئاسةُ البرلمان حصة البيت السني، ورئاسة الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة حصة البيت الشيعي، ثم تقسم الوزارات والمؤسسات على الشركاء (الأعدقاء) كلٌ حسب وزنه وحجمه، وتبعا لقوة الدولة الخارجية التي ترعاه وتحميه.
والغريب العجيب أن قادة أميركا وحليفاتها الأوروبيات الذين لا يسمحون بتزوير الانتخابات في بلادهم يُمجّدون تزوير الانتخابات عندنا، وثم يُشيدون بنزاهتها وسلامة نتائجها، رغم أن أجهزة مخابراتهم تعلم علم اليقين بأن ثلاثة أرباع الفائزين فيها، منذ 2005 وحتى اليوم، محتالون مختلسون مهربون وتجار شعارات وباعة محرمات ومسروقات ومخدرات.
وفي عراقنا الديمقراطي الجديد، وحدَه، يُمنع الفائز بأكثر المقاعد البرلمانية من تشكيل الحكومة، ثم يُنصَّب الحاصلُ على أقل المقاعد رئيسا للوزارة، وقائدا عاما للقوات المسلحة، ويُسمح له بأن يتصرف بأموال الدولة وأرواح أبنائها بمزاجه أو بمزاج أولاده وأصهاره ورفاقه في الحزب، دون أي اعتبار لبرلمان وقضاء، ثم يظل، رغم كل ذلك، في نظر أميركا، حامياً للديمقراطية واللازم دعمُه وحمايته من كل طامع وحسود، إلى أن يلعب معها بذيله، فتُسقطه برمشة عين، وتأتي بآخر بديلاً عنه من حزبه، أو من "بيت" إخوته في الطائفة، بعد موافقة حليفتها إيران وبركات الوليّ الفقيه.
وبنفس القدر الذي يغمض فيه القادة الأميركيون والأوربيون عيونهم عن خراب ديمقراطياتنا، ويشجعون على تسخيفها وإفراغها من مضامينها والعبث بقواعدها وقيمها، يهبّون، بشمم وحمية وبحزم، حين تتعرض واحدة من ديمقراطياتهم لأقل مساس بها أو بأصحابها.
فحين أرسل القيصر الروسي بوتين جيوشه إلى أوكرانيا لقتل رئيسها المنتخب أو لأسره، ولتنصيب حكومةٍ أوكرانية على مزاجه، وبمواصفاته، فوجيءَ بثلاثين دولة غربية وشرقية، بقيادة أميركا، تسارع لنجدة الإنسانية المعذبة في أوكرانيا، وللدفاع عن كرامة الإنسان الأوكراني وحريته وحقوقه المُقدسة.
ولكن أميركا، نفسها، ومعها الثلاثون دولة الثائرة على الإثم والعدوان في أوكرانيا، لم تجد في جميع مجازر بوتين في سوريا، ولا في جرائم المستوطنين اليهود في فلسطين، ما يستحق منها أكثر من الصمت والرضا والقبول.
خذوا صدام حسين مثلا. فقد ظل صديقا حميما لأميركا وحليفاتها الأوروبيات والعربيات عشرات السنين، إلى أن شق عصا الطاعة، وهتف بسقوطها، وتغنى بفلسطين، وحين لم تستطع تدبير انقلاب قصرٍ ضده غزته بجيوشها الجرارة، فشنقته، وسلمت بلاده لعدوّتها اللدود، ولحفنة من وكلائها المزورين والحيالين والمختلسين.
ثم طَرَدت الرئيس المصري حسني مبارك من الرئاسة، وهو المنتخب أيضا، وسجنته وحاكمته وأذاقته أقسى أنواع الهوان. والحال ذاتُه تكرر مع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وإخوان مصر، ونهضة الغنوشي، والحبل على الجرار.
أما أخر حفلات الطرد المدبَّر المغلف بالديمقراطية والشرعية البرلمانية فقد حدثت مؤخرا في باكستان.
فقد تلقى رئيس الوزراء الباكستاني (المنتخب) عمران خان من سفيرِه في واشنطن رسالةً قصيرة من مسؤول أميركي رفيع يقول فيها، "سيتم العفو عن باكستان في حال رحيل عمران خان، وبخلاف ذلك ستكون هناك عواقب".
ثم أسقطته أميركا، بسرعة فائقة، بأصوات أصدقائها وحلفائها في البرلمان. ويرجع الرئيس الباكستاني المطرود الأسباب التي جعلت أميركا تغضب عليه وتقرر ترحيله إلى تحالفه مع الصين وتسلّحه منها، وزيارته لصديقه فيلاديمير بوتين وتوافقه معه، ثم رفعه شعار "باكستان ليست للبيع".