حميد طولست يكتب لـ(اليوم الثامن):
شيوخ وفقهاء يرون العلة في الواقع وليس في أفكارهم؟
من الظواهر الخطيرة التي ابتليت بها بلادنا في العقود القليلة الماضية تكاثر جحافل الذين يسمون أنفسهم برجال الدين ، الذين لا هم لهم غير قولبة المجتمع حسب تصنيفاتهم الضيقة الجاهزة وفرض التوافق مع أفكارهم وآرائهم على كل البشر ، وإلا أصبحوا أعداءً لهم فيخرجونهم من الملة والدين ويزجون بهم في جهنم خالدين فيها.
حتى لا افهم خطأ ، فإنه لا مشكلة لي مع أي مدرسة أو مذهب أو طائفة أو جماعة دينية -كما يمكن أن يتبادر للبعض- ومن المستحيل أن أعترض او اختلف مع أي من فقهائها وشيوخها ووعاضها حول ما يعبرون عنه من آراء في ضوء سقفهم المعرفي ، مادام رأيهم لم يخرج عن تعاليم الدين الصحيح غير المزور الذي يحث على الإنسانية والعدل والسلام والأخلاق الحسنة ، ولا يهمني أمرهم كأشخاص وما دامت فتاوهم ومواعضهم لا تؤثر سلبا على حياة الناس الذين عادة ما يكونون من العوام الذين كثيرا ما لا يملكون من العلم ما يؤهلهم للفصل في القضايا المختلف عليها، وتبقى مشكلتي الوحيدة مع بعض ضعاف الموهبة من الفقهاء والشيوخ والوعاض العاجزين عن تحقيق أنفسهم بعيدا عن "البوز" وطلب الشهرة والمال ، الذين شوّهوا من أجلهما كل علوم أصول الفقه والمقاصد ، ووسعوا مفهوم البدعة ومجال الفتوى المتشددة في كل أمور المسلمين الحياتية التي جردت حياتهم من كل مظاهر الجمال والفرح والسرور ، بما انتصرت له من الدعاية للعنف والكراهية بأحكام شاذة ومتشددة وغريبة، ومواضيع غيبية ، وآراء مثيرة للسخرية لا يستوعبها العقل السليم ولا التفكير العلمي المنطقي ، بدعوى نصرة الله ورسوله والدفاع عن الإسلام الذي حطموا باسمه الأمة ومزقوا وحدتها وجعلوها شيعا منصرفين عن عظائم أمورها ، مشغولين بالتفاهات والسفاهات والسفاسف ، ودفعوا بالكثير منهم للارتداد عن الإسلام ، وفتحوا للمعادين أبواب الانتقاد الاسلام والقدح في رموزه ، غير آبهين بما يلحقعون بمستقبل الأمة من الإساءة والأذية التي اعتادوا تعليق اسبابها على مشجب المؤامرة ضد الإسلام ، تلك المؤامرة التي يظهر المنطق أنه ليس هناك مؤامرة على الإسلام من الخارج ، وإنها منبتقة من الداخل وكامنة في جحافل النقصاء الفقهاء والشيوخ والوعاض الذين يقتاتون على جهل العامّة ، ويتاجرون بأعطابهم النفسية والخلقية ، ويجعلونها وسيلة ضغط يدوسون بها عليهم من اجل جمع المال ونيل الشهرة بدون إنجاز، والذين لم تصنعهم أميركا ولا روسيا ولم تبرمجهم اليابان ولا الصين على تعويض نقصهم بأذية الناس ، الأذية التي ليس في الإمكان تخليص المجتمع منها إلا باستعمال العقل الذي عملوا على تعطيله ، وأوقفوا مواكبته للتاريخ الذي يدوس بالإقدام من لا يُساير تطوره ،مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم.
ومما يؤسف حقا في كل هذه الظاهرة ، هو يتنازل بعض المثقفين -أو أشباههم على الأصح- عن عقولهم أمام رجال الدين ، ويستسلموا لما ينشر من أوهام وخرافات تجعل العبوس والتجهم علامة تقوى ودليل صدق ، والاستغفار والتسبيح والأدعية والإبتهالات والتمتمات الدينية هي الحل الأمثل لكل مشاكل الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى السلوكية ، أما إيمان البسطاء وتسليمهم واستكانتهم للقيود الوهمية التي نُسجت في مخيلاتهم الواهية، فأمر طبيعي تدفعهم إليه الحاجة لما يملأ فراغ جهلهم الذي لا يسمح لأعينهم بأن ترى إلا ما يستحسنه من يسمون أنفسهم فقهاء وشيوخ ورجال الدين ،والذي يدَّعون أنه عمل في سبيل الله، أو سبيل الحق و الحقيقة.
وختاما اتوجه برجاء لهذه الفئة العبوسة الوجوه ، المكشّرة الأنياب، الممسوخة الجمال ، المنزوعة السماحة والذكاء الحضاري ، أن تدع العامة على فطرتها النقية ولاتقحم من لا ملك منهم القدرة على فهم ألاعيبهم الشيطانية في مشاحناتهم الخائبة ، وأن يتقوا الله في الشباب الذي سيحمل مشعل الأمة ،
وليتوجهوا بمواعضهم وحواراتهم ومناظراتهم -إن استطعوا ذلك -إلى الفلاسفة والعلماء ورجال الدين والمتخصصين، الذين يملكون العلم والقدرة على مناقشهم بالحجة والأدلة والراهين في كل قضيا الإيمان والإلحاد، الأمر الذي لا أظنهم يستطيعون فعله ولو اجتمعوا جميعهم في جبة واحدة وتحت عمامة واحدة ، لضعف رصيدهم العلمي والمعرفي ، وفقر معلوماتهم الدينية ، وقلة موهبتهم الأدبية، وكثرة أخطائهم التعبيرية ، واقتصارهم على بعض المحفوضات الفقية الشادة المحرمة على الناس المجادلة في الدين بالحجة والمراجعة بالأدلّة التي يحاربونها بالنفخ في أبواق اللغو والجعجعة التي يضاربون بها في سوق الغوغاء لعلهم يجدوا لأنفسهم مكانا ومكانة لا يستحقونهما.