ميرزا الخويلدي يكتب:
«سيدة الجنة» بين الحرية و«التجديف»
في بريطانيا، موجتان من الغضب أعقبتا عرض الفيلم المثير للجدل «سيدة الجنة»؛ الموجة الأولى لآلاف المسلمين الذين تظاهروا احتجاجاً على الإساءة و«التجديف» اللتين تضمنهما الفيلم، والموجة الثانية لحماة النظام الليبرالي، التي لا تعترف بـ«التجديف» أصلاً، وتعده مجرد وسيلة لقمع حرية التعبير.
بعيداً عن الفيلم واستغلاله حرية التعبير للإساءة، والشيطنة، ثمة جدل حقيقي بين مفهومي حرية التعبير والتجديف في المفهومين الشرقي/ الإسلامي والغربي الليبرالي.
وقبل ذلك ثمة حاجة لوضع معيار موضوعي أمام سيل الأعمال السينمائية والدرامية التي تستخدم التاريخ لترويج وجهة نظر منحازة وغير موضوعية، فضلاً عن أولئك الذين يستخرجون من التاريخ أحداثاً ومرويات وحكايات وسيرة أشخاص فقط لكي يُفسدوا الحاضر وينكلوا بالمستقبل ويخربوا التعايش الإنساني.
نفهم لماذا غضب المسلمون من هذا الفيلم، لكن لماذا يغضب البريطانيون من محاولات وقفه...؟
ثمة جدل واسع بشأن مفهومي التجديف وحرية التعبير، بين الشرق والغرب، حيث المخاوف من أن يُستخدم قانون التجديف لمزيد من الاضطهاد الديني وسلب حرية التعبير وقمع الأقليات، هذا ما يقوله الغرب، ويمكن أن يتحول الدفاع عن قانون التجديف إلى موجات سخط وكراهية وانتقام تستهدف خصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً، وهذا ما يعتقد به الليبراليون الغربيون.
لكن الشرق يجادل بأن السماح بالتجديف يأتي فقط لاستهداف المسلمين وثقافتهم، ولذلك يتم سوق الأكاديميين والمثقفين إلى المحاكم إذا عبروا عن آرائهم في قضية مثل «الهولوكوست»، أو وجهوا نقداً للمثليين، كما يجادلون بأن ما يسمونه الانفلات والتمادي في ازدراء الأديان (التجديف) كان سبباً للغضب والانقسام والكراهية، مذكرين بالأحداث التي أعقبت نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم (ص) والهجوم المروع على مكاتب «شارلي إبدو» في 7 يناير (كانون الثاني) 2015 وما أحدثه من ضحايا وانقسام.
بين يدينا كتابان، الأول قرأت عرضاً له، لأني لم أجده باللغة العربية اسمه: «التجديف وحرية التعبير: تأملات مقارنة ونظرية وتاريخية بعد مذبحة تشارلي إبدو»، وهو كتاب من تأليف جماعي لاثنين من أساتذة القانون في أوروبا، هما: يروين تيمبرمان، وأندراس كولتاي، وشارك معهما في التأليف ثلاثون خبيراً وأكاديمياً قدموا إضافات مهمة في تأليف هذا الكتاب.
يناقش الكتاب مفهومي التجديف وحرية التعبير ضمن الإطار الثقافي، وهو يلاحظ أن العالم الغربي حساس للغاية من قوانين مكافحة التجديف، بينما يعامل القوانين المقيدة لحرية الكلام بدرجة أقل في إثارة الجدل، ومن الأمثلة البارزة إنكار الهولوكوست.
يخلص محررا الكتاب إلى أن القانون وحده لا يكفي لضمان حرية التعبير، حيث لا بد من تضافر الجهود التعليمية والسياسية مع التمثيل العادل للأقليات لتعزيز الاحترام والتسامح.
أما الكتاب الثاني، فهو كتاب «هل النقد علماني... التجديف والإساءة وحرية التعبير»، وألفه مجموعة من الإنثروبولوجيين الغربيين، على رأسهم طلال أسد وصبا محمود، صدر عن دار «جداول» وترجمه إبراهيم الفريح.
يركز هذا الكتاب على مسألة حرية التعبير وقيودها، والعلاقة بين النقد والعلمانية والدين، ويتخذ أيضاً من قضية الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي (ص) وردود الفعل عليها، نقطة انطلاق. ويتساءل الكتاب: هل النقد علماني؟ ثم يمضي في مناقشة ثنائية النقد الغربي العلماني «المرتبط بالعقل والحرية»، والتقييد الإسلامي «المرتبط بالإكراه والتشدد وانعدام التسامح».
يدور البحث حول مفهوم حرية التعبير والقيود التي تفرض حولها نتيجة التباين الثقافي، وعلاقة النقد والدين، ودور العلمانية كمرجع فكري للدولة في الغرب، وكذلك مفهوم التجديف وقراءته تبعاً للمرجعية الفكرية. ويثير الكتاب مجموعة أسئلة، تتعلق بالعلمانية والأحكام المعلبة التي تدور حولها من قبيل وصفها بالموضوعية والعقلانية والحياد، مقابل الدين القائم على الإيمان والاتباع.
الحرية ليست انفلاتاً، فنحن أحرار بمقدار ما يكون غيرنا أحراراً، يقول ميخائيل نعيمة: «الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظاً»، ولكن «لا حرية دون مسؤولية»، هكذا يقول جان جاك روسو.