إبراهيم الزبيدي يكتب:
الديمقراطية العراقية والديمقراطيون
لا نكذب على بعضنا. إن علاقتنا، نحن العراقيين، بالديمقراطية فقيرة، وتكاد تكون معدومة بالمرة. وحتى التي شهدها العهد الملكي لم تكن ديمقراطية كالتي عرفتها الشعوب المتقدمة الأخرى، بل كانت بداية متواضعة لنظام محاصصة طائفية وقومية ودينية وعشائرية، بثوب برلماني، ولكن كان يمكن تطويره وتعديله ليكون نظاما ديمقراطيا لو تعهده الانقلابيون الذين جاؤوا بعده بالرعاية والإضافة والتطوير.
أما في أعقاب 2003 وحتى اليوم، فقد توهّم العراقيون بأن الانتخابات التي اخترعها الأميركيون والإيرانيون والمرجعية الشيعية والإقطاعيون العرب والكرد هي الديمقراطية، رغم كل شوائبها ونواقصها وتعثراتها المتكررة. فكل الذي تغير هو وجوه القادة الكبار وخدمهم وجواسيسهم وسماسرة صفقاتهم التجارية، فقط لا غير.
طبعا لا يمكن أن نحقن المواطن العراقي بالمصل الديمقراطي، مرة واحدة ليصبح بين ليلة وضحاها ديمقراطيا كاملا يحترم الرأي الآخر ولا يضيق به، ويقدس الحوار بالحجة والمنطق، ولا يبغض شقيقه حين يخالفه في رأي أو عقيدة، ولا يَعتبر الوطن ملكه وحده لا شريك له فيه.
فالديمقراطية نبتٌ آخر لا ينمو ولا يترعرع ويؤتي ثماره إلا بجهد جهيد في مجتمع لا يتوارث الدكتاتورية الدينية والقبلية، جيلا عن جيل.
إضافة إلى أن أطرافا عراقية أساسية مهمة ومنها مرجعيات دينية وعشائرية وقومية، عربية وكردية معا، لا يناسبها قيام حكم شعبي ديمقراطي حقيقي يفسد عليها زعاماتها ويهدد مكتسباتها.
وكأن مقتدى الصدر ونوري المالكي وقادة الإطار التنسيقي وأصحاب القضاء الأعلى لم يكونوا هم أول العابثين بالدستور وأشدّ المتلاعبين بأحكامه وهيبته وبسلطة القانون
في خطابه الأخير عبّر مقتدى الصدر عن حرصه على الديمقراطية، وربط مطالبه الخاصة بحل البرلمان والانتخابات الجديدة بالعمل الديمقراطي الثوري السلمي. وقال “أوجّه كلامي للقضاء العراقي الذي مازلنا نأمل منه الخير، على الرغم مما يتعرض له من ضغوطات سياسية وأمنية وتسريبات من هنا وهناك، على أن يقوم بحل البرلمان بعد تلك المخالفات الدستورية أعلاه، خلال مدة لا تتجاوز نهاية الأسبوع القادم، وتكليف رئيس الجمهورية، مشكورا، بتحديد موعد انتخابات مبكرة مشروطة بعدة شروط سنعلن عنها لاحقا”. ليرد عليه المجلس الأعلى للقضاء العراقي مؤكدا أن هذا الأمر ليس من صلاحيته.
ثم يجيء رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، فيرفض حلَّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة قبل عودة المجلس إلى الانعقاد، متذرّعا بـ”أن العراق نظامه أمانة في أعناقنا جميعا، والعراق لا يخدمه إلا الالتزام بالقانون والدستور”. ثم يتبعه الإطار التنسيقي ببيان يجدد فيه “ضرورة احترام المؤسسات، وفي مقدمتها السلطة القضائية والتشريعية، ورفض كل أشكال التجاوز عليها، وعدم تعطيلها عن أداء مهامها الدستورية”، ويطالب القوى السياسية “بالعمل سوية للحفاظ على المكتسبات الديمقراطية”، ويدعو “الجماهير العراقية المؤمنة بالقانون والدستور والشرعية الدستورية إلى الوقوف مع جميع الخطوات القانونية والدستورية لتشكيل الحكومة، والدفاع عن المسار الديمقراطي الذي نؤمن به جميعا”.
وكأن مقتدى الصدر ونوري المالكي وقادة الإطار التنسيقي وأصحاب القضاء الأعلى لم يكونوا هم أول العابثين بالدستور وأشدّ المتلاعبين بأحكامه وهيبته وبسلطة القانون، وأكثر من شوه الديمقراطية واعتدى على أصولها وأحكامها، وهو بكامل قواه العقلية ومع سبق الإصرار والترصد.
إن كل الذي بقي في العراق من الديمقراطية التي تركها وراءه الحاكم الأميركي بول بريمر شعاراتٌ ديمقراطية مكتوبة بخط ٍ بائس على واجهات الأحزاب الحاكمة، وسياسيون لم تدخل الديمقراطية إلى قلوبهم، كل هذه السنين لأنهم توارثوا الدكتاتورية الدينية والقبلية من آبائهم وأجدادهم، على مدى قرون.
ورغم كل خلافاتهم المستعصية على الحل، فهم، جميعا، شيعة وسنة وكردا، متفقون بعنف وبشدة وتطرف على (شيعية) منصب رئيس الوزراء، وكردية رئاسة الجمهورية، وسنية رئاسة البرلمان، أيا تكن نتائج الانتخاب، وهي واحدة من أكبر الكبائر التي تُرتكب بحق الديمقراطية وسمعتها وهيبتها، علنا وبلا خوف ولا حياء.
وحتى لو تم حل البرلمان، وجرت انتخابات مبكرة ثانية فليس معروفا ما سوف يفعله هؤلاء (الديمقراطيون) وأحزابُهم لو فاز غدا مواطن عراقي غيرُ عربي، أو غيرُ مسلم، أو غيرُ شيعي؟ هل سيسمحون لكردي – مثلا- أو سني أو مسيحي بأن يتولى منصب رئيس الوزراء، وأن يختارَ وزراءه بحرية، ثم ينتقلون، طواعية وبهدوء وذوق رفيع، إلى معسكر معارضته في البرلمان العتيد؟
الجواب معروف. ولأنه معروف إلى حد البكاء، فإن المطلوب من هؤلاء الأربعة أن يعودوا إلى تحالفاتهم السابقة التي شبوا وشابوا عليها، وقاسوا مقاديرها بالدرهم والدينار، فيتقاسموا السلطة وفق حصصهم الطائفية والقومية والدينية والعشائرية الثابتة، ويوفروا على شعبهم ثمن معارك اليوم، وثمن معارك الغد المقبلة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.